لو طلبنا منكم أن تغمضوا أعينكم، وتتخيّلوا فيلسوفًا؛ كيف ستجسّدونه؟ غالبًا ما سيكون شخصًا طاعنًا في السن له هيئة الحكيم، مثل سقراط مثلًا، أو رائدًا أكاديميًا بسترة رسمية. مهما كانت الصورة التي تخيّلتموها، فإنكم تصوّركم كان إنسانًا بالغًا. لكن، ماذا لو علمتم بأن الفلاسفة الحقيقيون ليسوا من فئة الجامعات ولا حتى البالغين، بل من فئة الأطفال!

حاولوا أن تتذكّروا أي حوارٍ جرى بينكم وبين أطفالكم، ستجدون أنهم كثيرو السؤال، وفي كل مرة تجيبونهم أي شيء، سُيعاودون إليكم السؤال بِ (لماذا؟). 

يحاول الأطفال بطبعهم الفضولي إيجاد إجابات ليتمكنوا من خلالها فهم معنى وجودهم، وما تعنيه الحياة بالنسبة لهم، كل ذلك يجعلنا نتساءل بدورنا:

هل بإمكان الأطفال أن يتعاملوا مع الفلسفة؟ أليس أمرًا شاقًا عليهم؟ بل ما نوع الفلسفة التي يتعلّمها الطفل؟

تحدث عالم النفس الفرنسي «جان بياجيه Jean Piaget» عن فكرة التطوّر المعرفي عند الأطفال وكيف يمر عبر مجموعة من مراحل النمو، حتى يصلوا في سن الثانية عشر تقريبًا إلى القدرة على التفكير المجرّد، وكيف أنهم قبل هذا العمر لا يكونون قادرين على التفكير الفلسفي أو (التفكير حول التفكير).

صاغ بياجيه مصطلحًا أسماه «التفكير قبل السببي»، واصفًا فيه الطريقة التي يستخدم فيها الأطفال أفكارهم الخاصة، مدعومة بمنظورهم الفريد ليجدوا علاقة بين السبب والنتيجة، وصنّفهم بمفاهيم ثلاث:

  • الروحيّة  Animism : يتمثّل هذا المفهوم عند الأطفال باعتقادهم بقدرة الجمادات على الحركة، وأن لها دور مؤثر في حياتهم، كأن يعزو الطفل سبب سقوطه عن الرصيف أثناء مشيته بأن الرصيف كان مسعورًا، وحركته المتماوجة هي التي جعلته يسقط، أو أن ينظر للنجوم المتلألئة، فيعزو سبب هذا اللمعان لكون السماء تُعبّر عن سعادتها.
  • التصنّعية Artificialism: أما المفهوم الثاني عند الأطفال، فيكون بنَسبِهم كل مايجري في محيطهم من أفعال وظواهر، أو تغييرات بيئية إلى تدخّل بشري، كأن يرى الطفل عاصفة من نافذة منزله وكيف تتمايل الأشجار بقوّة، فينسب العاصفة بهوائها الشديد إلى شخص ما ينفخ بقوّة، وأن الغيوم البيضاء التي ظهرت بعد انقشاع العاصفة بأن ذلك الشخص قد رسمها بهذا الشكل واللون.
  • المنطق الانتقالي Transductive Reasoning: يعبّر المفهوم الأخير عند عدم قدرة الأطفال عن فهم العلاقة الحقيقية التي تربط بين السبب والنتيجة، يلجأون لما يسمى بالمنطق أو الاستدلال الانتقالي ليرسموا علاقة بين حدثين منفصلين لا يمكن أن ربطهما ببعض خارج حدود هذا الاستدلال، كأن يسمع الطفل فجأة صوت نباح كلبه في حديقة المنزل، وفي تلك الأثناء يشاهد بالونًا يطير في السماء، فيستنتج بأن نباح الكلب كان سببًا لظهور البالون.

بالتأكيد هناك شيء من الصحة بفكرة أن عقول الأطفال الفلاسفة تنضج كلّما تقدّموا في السن، لكن هل القدرات المعرفية للأطفال محدودة لهذه الدرجة؟

تٌشير مجموعة قوية من البحوث النفسية إلى أن وصفَ بياجيه من شأنه أن يُقلل من القدرات الإدراكية لدى الأطفال الفلاسفة بشكل كبير، وإنهم في الحقيقة ليسوا قادرين على التفكير المجرّد فحسب، إنهم مفكّرون متطورون، إنهم حقًا مبدعون.

الأطفال الفلاسفة يسألون الكثير، لكنهم يعلّموننا الكثير إذا ما أصغينا لهم، وفكّرنا معهم

يُشكك الأطفال الفلاسفة في الكثير من الأشياء التي يعتبرها الكبار أمرًا مفروغًا منه. بل إنهم منفتحون على الأفكار الجديدة، كان الفيلسوف «غاريث ماثيوز Gareth Matthews» من أوائل من لاحظوا ذلك، إذ قطع شوطًا بعيدًا في دراسته وناقش كيف عجز الفيلسوف بياجيه عن رؤية التفكير الفلسفي لكل طفل قام بدراسته، حيث اعتبر ماثيوز بأن عملية التشكيك والسؤال لدى الطفل ليست بالتقليدية، بل إنها عملية جديّة تستحوذ على نشاطاته، ويجب التوقف عندها والتأمل فيها لمعرفة كيف ولماذا يسأل الطفل كثيرًا.

لاحظ  ماثيوز بأن الأطفال الفلاسفة يميلون للاستمرار في طرح الأسئلة، دون المحاولة في غلق المسألة المطروحة، لما لها من متعة لا يُمل منها، على عكس ما يفعله الكبار، إذ أنهم لا يفضّلون طرح مثل تلك الأسئلة لأنها تتطلّب وقتًا للتأمل والوقوف عندها، ولا يعتبرون وجود وقت لهذا الأمر.

حدد ماثيوز المراحل التي يمر بها الأطفال الفلاسفة أثناء تحليلهم ومناقشتهم للأحداث التي يمرون بها كالتالي:

  • مرحلة التعجب
  • مرحلة الدهشة
  • مرحلة ألعاب العقل

تفتح هذه المراحل مجتمعة مجالًا واسعًا للأطفال الفلاسفة لطرح مزيد  من الأسئلة، قد تبدو أسئلة سخيفة للبعض، لكن مجرّد طرحها من قبل الطفل ستقوّي محاكمته العقلية، وتجعله أكثر ذكاءً.

في معرض بحثه ودراسته، حصل ماثيوز على الكثير من الأمثلة الرائعة من أصدقاء له عرفوا اهتمامه بالتفكير الفلسفي للأطفال، والذي قدّمها بدوره ليمثل كيف يمر الأطفال الفلاسفة بتلك المراحل:

  • الطفل (تيم):

الطفل (تيم) ذو الأعوام الستة، يتسائل عندما يقول لأبيه بينما كانوا على طاولة الغداء عن حقيقة الحياة:

«أبي، كيف يمكنني التأكد بأن كل شيء ليس حلمًا؟»

  • الطفل جوردان:

قصة أخرى لطفل يدعى (جوردان) ذو الخمسة سنوات، أثناء ذهابه للنوم في فراشه، تساءل:

«إذا ذهبت لأنام في فراشي عند الثامنة مساءً، واستيقظت عند السابعة صباحًا، كيف لي التأكد من أن عقرب الساعة الصغير قد دار مرة واحدة فقط؟ هل عليّ السهر طوال الليل لأراقبه؟ ماذا لو نظرت بعيدًا ولو لبرهة، ربما يدور مرّتين!».

لكن وجد ماثيوز أمثلة أخرى عندما اجتمع مع مجموعة أطفال بأعمار بين (8-11) سنة، أظهر فيها قدرة الأطفال الفلاسفة على المناقشة الفلسفية المستمرّة، وقدرتهم التفكير الفلسفي الجاد عندما طرح عليهم قصة إيان:

  • الطفل إيان:

ذهب الطفل إيان إلى أمه، وهو مكدّرٌ عليه من أطفال أصدقاء والديه الذين أبعدوه عن مشاهدة برنامجه التلفزيوني المفضّل، واحتكروا المشاهدة لأنفسهم، سائلًا إياها:

«أمي، لماذا يكون وجود ثلاثة أطفال أنانيين أفضل من وجود طفل أنانيّ واحد؟»

أثارت قصة إيان حفيظة تلك المجموعة من الأطفال الفلاسفة التي اجتمع معهم ماثيوز، وأظهروا في نقاش حيويّ الرغبة في التوصل لحل يرضي إيان وبقية الأطفال الثلاثة الذين كانوا غير مبالين، وبيّنوا أهمية احترام حقوق الآخرين، وكيف يمكن أن يشعر أحدهم لو كان مكان إيان. لكن لم يتوقف ماثيوز عند هذا الحد، واتجه بالنقاش إلى منحى آخر بقوله:

«ماذا لو تركنا هؤلاء الثلاثة يحصلون على ما يريدون، بالتالي سنجعل من ثلاثة أطفال سعداء بدلًا من واحد فقط».

أشعل هذا النقاش نقاشًا آخر عند الأطفال الفلاسفة حول العدل، وكيف لا يجب أن يستمتع ثلاثة على حساب متعة رابعهم. لا شك بأن مثل هذه المحاورات وما تلاها من تفسيرات وإجابات، كانت جزءًا من قدرة الأطفال الفلاسفة على النقاش المطوّل، وربما يعود سبب ذلك لكونهم قد واجهوا تحدّيات مشابهة، ومع ذلك قدّموا فهمًا متطوّرًا جدًا، وهذا ما يجب أن يتوقعه المرء من الأطفال إذا ما أفسح لهم المجال للتأمل في تجاربهم الخاصة.

خلاصة القول

تُعد الفلسفة بالنسبة للأطفال الفلاسفة ، مسارًا تخيّليًا عظيمًا، يُظهرون فيها قدراتهم غير المحدودة على إطلاق الحجج، والتلاعب بها والنظر إليها من جوانب مختلفة، ويكونون أكثر انفتاحًا للعيش من البالغين، لكونهم لا يضعون افتراضات مسبقة لما يلمونه عن العالم، ولكوننا نعيش في نطاق الممكن، وبالتالي أصبحنا أقل امتلاكًا للخيال القادر على تصوّر ما هو متاح من إمكانيات. وكلّما ابتعدنا خطوة عن الطفولة، فإننا نتحرّك بعيدًا عن حالة الاكتشاف والدهشة، ونصبح أقل انفتاحًا وأكثر تقيّدًا لما يسود من معتقدات.

ويجب علينا إتاحة المزيد من النقاشات الفلسفية مع أطفالنا، دون ممارسة السلطة المباشرة في أسئلتهم أو الأجوبة المطوّلة، لنخلق بذلك، تأثيرًا تفاعليًا بيننا وبينهم، فمن يملك القدرة على التساؤل من دون خوف، فإنه يملك القدرة على كل شيء.

علاء شاهين

————————- 

المصادر

  • Santrock, John W. (2004). Life-Span Development (9th Ed.). Boston, MA: McGraw-Hill College – Chapter 8
  • Rathus, Spencer A. (2006)، Childhood: voyages in development، Belmont, CA: Thomson/Wadsworth
  • 2016, The Philosophy of Childing: Unlocking Creativity, Curiosity, and Reason Through the Wisdom of our Youngest, New York: Skyhorse Publishing.
  • Biesta, Gert J.J. (2017) Touching the soul? Exploring an alternative outlook for philosophical work with children and young people. childhood & philosophy 13(28): 415-452.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا