عاش العرب في عهد الدولة العباسية عصورًا ذهبية ازدهرت فيها التجارة والزراعة والفنون والعلوم والفلك والطب وانتشرت فيها المكتبات والمجلدات وذاع سيط العديد من المفكرين والأدباء والفلاسفة المرموقين الذين أثروا بتاريخ الحضارة البشرية، والذين لا تزال أسماؤهم تتردد خلال محاضرات أهم الفلاسفة والمفكرين في أرقى الجامعات حول العالم حتى يومنا هذا، ولا يزال يضرب المثل بحالة الرفاه التي عاشها العرب والمسلمون في ظل الدولة العباسية حتى اليوم. كان انهيار الدولة العباسية مع الغزو المغولي للعراق وحصار بغداد وحرق أهم الكتب وإنتاجات المفكرين والفلاسفة السبب الأساسي لانتهاء العصر الذهبي الإسلامي، فيما يربط بعض المؤرخين تراجع العصر الذهبي بالنهضة التيمورية وانطلاق عصر إمبراطوريات البارود. 

انتهى العصر الإسلامي الذهبي، وانتهت معه السمعة الحسنة للعرب والمسلمين التي كانت مضربًا للمثل في جميع أصقاع المعمورة، وبدأت بعدها العصور الوسطى العربية التي لم تشهد نهايتها حتى يومنا هذا. لا تزال أعين المجتمعات العربية تشخص نحو التاريخ الذهبي لأمتها، ولا يزال الكثيرون من العرب يتحسرون على الماضي، ويتأملون عودته. فهل آمالهم قابلة للتحقق؟ وهل من الممكن لنا أن نشهد بزوغ عصر ذهبي ثانِ؟  

ملامح العصر الذهبي للإسلام

ازدهرت من القرن الثامن وحتى القرن الثالث عشر العلوم والتنمية الاقتصادية والأعمال الثقافية في ظل الخلافة الإسلامية بدءًا من عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد مع افتتاح بيت الحكمة في بغداد، وتكليف العلماء بترجمة كل أنواع العلوم إلى اللغة العربية. اهتمت الدولة الإسلامية في فترة الخلافة العباسية بالعلوم الفنون والعمارة والمدنية، وكانت الحرية الفكرية مقبولة إلى حد بعيد ضمن ضوابط معينة، فيما كانت الفلسفة خاضعة للقواعد الأصولية. 

توصف الحضارة الإسلامية في العصر العباسي بأنها حضارة عربية إسلامية لأنها قامت على اللغة العربية والدين الإسلامي، وبدأت النهضة العلمية في الحضارة الإسلامية من خلال نقل العلوم القديمة المكتوبة باللغات الأجنبية وترجمتها للغة العربية.

قدم الفنانون والمهندسون والعلماء والشعراء والتجار والعلماء والفلاسفة في العالم الإسلامي إسهامات في مختلف المجالات بقيت خالدة حتى يومنا هذا، وأصبح العالم الإسلامي في تلك الفترة مركزًا فكريًا مهمًا للعلم والطب والتعليم والفلسفة. كانت عواصم السلالات الإسلامية المتنافسة (الفاطميين في مصر والأمويين في الأندلس) مراكز فكرية رئيسية تنافس بغداد، وكانت الإمبراطورية الإسلامية الأولى بمثابة حضارة عالمية. كان الورق في تلك الحقبة التاريخية هو رائد الابتكار، إذ أخذ العرب اختراع الورق من الصينيين في معركة تالاس عام 751، وحسنوا على صناعته. انتشر استخدام الورق من الصين للمناطق الإسلامية في القرن الثامن وانتقل منها إلى الأندلس في القرن العاشر. تميز الورق بأن تصنيعه كان أسهل من المخطوطات، وأقل عرضة للتشقق من ورق البردي، ويمكن له أن يمتص الحبر، ما جعله مثاليًا لحفظ السجلات. ابتكر صانعو الورق الإسلاميون أساليب خط التجميع لنسخ المخطوطات يدويًا لإنتاج طبعات أكبر بكثير من أي طبعات متوفرة في أوروبا لعدة قرون. من هذه البلدان تعلم بقية العالم صناعة الورق من الكتان. في عام 900 ميلادية، بدأت مئات من المحلات التجارية بتوظيف الكَتَبة، وعملت على تجليد الكتب في بغداد في المكتبات العامة التي أصبحت المنشأة الأولى، ومن هنا بدأ انتشار صناعة الورق غربا إلى المغرب ثم إلى إسبانيا ومنها إلى أوروبا في القرن الثالث عشر. 

عوامل انطلاق العصر الذهبي للإسلام

يعد عصر الخلافة العباسية أكثر مراحل الخلافة الإسلامية التي ازدهرت فيها الصحوة العلمية، وبدأت فيه حركات ترجمة التراث العلمي للإغريق والهنود والفرس، بما في ذلك علوم الفلك والرياضيات والطب والفلسفة والكيمياء والأدب وغيرها من العلوم.

تركزت الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى القديمة لتنهل من معارفها وتستفيد من خبراتها من خلال الترجمة، ويوجد عشرات، بل مئات الأمثلة على ترجمة مؤلفات مهمة لأعظم المفكرين والفلاسفة القدماء. كان الأمير العباسي خالد بن يزيد من بين أوائل الأمراء المسلمين الذين أمروا بنقل العلوم الإغريقية والسريانية إلى اللغة العربية. تحدث المؤرخ ابن النديم في كتاب «الفهرست» عن خالد بن يزيد، فقال: «وعندما خطر ببال خالد الصنعة، أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة».

روي أن الخليفة المأمون كان يدفع مكافأة المترجم وزن الكتاب الذي يترجمه إلى العربية ذهباً ما أدى إلى وجود أكداس من الكتب جذبت انتباه الأجيال اللاحقة وحازت احترامهم من مسلمين وغير مسلمين وافتتحت في عهد العباسيين مئات المكتبات العامة والخاصة، الأمر الذي أمد القراء بآلاف الكتب.

أُضفي الطابع الديمقراطي على المعلومات التي تناولها المفكرون في كتبهن في العصر الذهبي للإسلام لدرجة أنّه، ولربما لأول مرة في التاريخ، أصبح من الممكن كسب العيش من كتابة الكتب وبيعها فقط. أُنشئت في عصر هارون الرشيد دار علمية وأكاديمية تحت اسم بيت الحكمة، وازدهرت في عصر الخليفة المأمون، وكان مكانها قصر الخلافة في بغداد، وجمع فيها العلماء، من المسلمين وغير المسلمين، فيها مجموعة من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة وترجموها إلى اللغة العربية ومن ثم إلى اللغات التركية والفارسية واللاتينية والعبرية، وظل بيت الحكمة موجودًا كجزء من حركة الترجمة الكبرى التي ظهرت خلال العصر العباسي. تقدر بعض الأبحاث اليوم الأموال التي أنفقت على حركة الترجمة ما يعادل ضعف ميزانية البحث السنوية لمجلس البحوث الطبية في المملكة المتحدة.

أدت ترجمة النصوص الفلسفية من العربية إلى اللاتينية في أوروبا الغربية إلى إحداث تحول محوري في جميع التخصصات الفلسفية تقريبًا في العالم اللاتيني في العصور الوسطى: «كان تأثير الفلاسفة الإسلاميين في أوروبا قويًا جدًا وخاصة في الفلسفة الطبيعية وعلم النفس والميتافيزيقيا، وكان له أثر كبير أيضًا في مجالات دراسة علمي المنطق والأخلاق».

قبل إنشاء المدارس النظامية كانت قصور الخلفاء ومنازل العلماء ودور الكتب والمساجد بمثابة جامعات ومؤسسات تعليمية يحج إليها الطلاب من كل مكان. بدأ التدريس أول الأمر في العالم الإسلامي في المساجد والجوامع، كما كان يجري أحيانًا في بيوت المدرسين الخاصة، ثم تطورت منظومة التعليم وصار لها دور علم خاصة يؤسسها الخلفاء والولاة، وكانت هذه الدور بالأساس دور كتب، ولكن وجد فيها أيضًا مدرسون وعلماء بالإضافة للتراجمة والنساخين والمجلدين. وكانت الشهادة أو الإجازة يمنحها الأستاذ للتلميذ بعد أن يفرغ الطالب من دراسة كتاب أو موضوع يجيز له تدريسه، ويشرف على إدارة البيت صاحبها ويتولى إدارة شؤونها، ويعاونه المشرف أو المعاون والمسجل أو الكاتب وأمين المكتبة الذي يتولى شؤون خزائن الكتب. كان يتردد على بيت الحكمة عدد من العلماء الكبار أمثال محمد بن موسى الخوارزمي ويحيى بن أبي منصور الفارسي والبلاذري وغيرهم. كان لبيت الحكمة فضل كبير في تطور الطريقة الحوارية التي ينسبها المحدثون إلى الفيلسوف اليوناني سقراط، فطوروها وطبّعوها بطابع إسلامي، وبنوا عليها طريقة المناظرة التي أصبحت أحد ميزات التربية الإسلامية، وكان لاشتداد حركة الاعتزال في عصر المأمون أثر كبير في تطور طرق الحوار والمناظرات. 

يمكن اعتبار الفلسفة الإسهام الأكبر الذي قدمه المسلمون في العصر الذهبي للدولة الإسلامية ونقلوه للغرب، إذ استعادوا الفكر اليوناني وفسروه باللغة العربية، كما طوروا الفلسفة اليونانية إلى السكولاستية. بدأت عمليات تعريب وتطوير الفلسفة اليونانية في القرن التاسع في عاصمة الدولة العباسية، بغداد، مع ترجمة أهم الأعمال اليونانية، بما في ذلك أعمال أرسطو، للغة العربية، ومحاولات المفكرين المسلمين لصياغة الطروحات الدينية من منظور فلسفي. كان الفلاسفة يتناولون مواضيع هامة كالدين والجنس والموت بطريقة منطقية وكانوا يتجادلون حولها بكل أريحية دون تعرضهم لضغوط من طرف السلطة العامة. مع ذلك، تعرض بضعة مفكرين لبعض المعارضة من قبل حراس المقدسات، إلا أن تأثيرهم لم يتعد بعض الانتقادات التي لم تؤثر على العامة مثلما هو الحال اليوم، وكان للمفكرين دورًا رياديًا في قيادة الأمة بغض النظر عن فكرهم أو دينهم أو حتى إلحادهم. 

هل من الممكن استعادة العصر الذهبي للإسلام؟

إن المعادلة التي تصف تحقيق النمو الاقتصادي والفكري والثقافي في البلاد الإسلامية والعربية، وبالتالي الانتقال إلى عصر ذهبي إسلامي ثان، ليست بالصعبة، فتحفيز المعلمين ومكافأة المفكرين والاهتمام بالمدارس والجامعات ومراكز الأبحاث، وتدريس أسس الفلسفة والنقد، وترجمة الأبحاث العالمية والانفتاح على الآخر ورصد إنجازاته والتعلم منها وإعطاء الحرية للمفكرين والفلاسفة وإعطاء المرأة الحق بمشاركة الرجل في مختلف مناحي الحياة، لا بد لها أن تنتج في نهاية المطاف عصرًا ذهبيًا، لكن أغلب البلدان العربية والإسلامية اليوم منشغلة بالخلافات والانقسامات والحروب، وهي بعيدة كل البعد عن خطو الخطوات الأولى في طريق استعادة أمجادها الماضية. 

المصادر: 

  1. Iraq’s Golden Age: The Rise and Fall of the House of Wisdom.
  2. Islamic Science and the Making of the European Renaissance.
  3. Hyman and Walsh Philosophy in the Middle Ages Indianapolis, Medieval Islamic Civilization Vol.1.
  4. How Islamic Learning Transformed Western Civilization: Review of ‘The House of Wisdom’.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا