قد يتبادر إلى أذهاننا بمجرد ذكر كلمة « التعاطف » بعض الصور لمشردين على قارعة الطريق، أو لحيواناتٍ تحتاجُ لمأوىً، مع شعور بالحزن لحالهم، وبالرغبة في تقديم المساعدة لهم.

كيف يمكن لهذه الحالة أن تكون غير نبيلة أو غير إنسانية؟..

وكيف يمكن لها أن تحمل آثارًا سلبيّة؟

وهل تصلح فعلًا لأن تكون بوصلة أخلاقية تبنى عليها المجتمعات؟ 

قبل البدء بمناقشة آثار التعاطف، يجب أن نفرّق بين عدة مصطلحات هي: 

  1. الشفقة  Pity: الشعور بالحزن لمصيبة أحد ما حسب تعريف قاموس ميريام ويبستر.
  2. العطف أو Compassion: شعور واعٍ بمعاناة الآخرين مع رغبة في تخفيف هذه المعاناة، وفق ذات القاموس.
  3. وأخيرًا، التعاطف أو Empathy: أي عملية فهم وإدراك وتحسس وتقمص مشاعر الآخر والإحساس بمعاناته والتأثر بها. 

من المهم أن نفهم تمامًا هذه الفروقات في المصطلحات، لأن تحليل كل منها يظهر لنا الفرق الجوهري في آلية عملها وتأثيرها على قراراتنا الحياتية. 

يناقش بروفيسور علم النفس في جامعة ييل «بول بلووم Paul bloom» في كتابه المعنون «ضد التعاطف» أو « «Against empathy كيف يمكن أن تكون قيمة التعاطف- مهما كانت مدفوعة بنوايا حسنة- بوصلة أخلاقية غير كافية وغير صائبة دوماً، لدرجة أن المجتمعات والأفراد الذين يتخذون قرارات أخلاقية على أساس التعاطف، يكونون أقل حساسية ومراعاة للأعداد الكبيرة من الأشخاص، أو للمصائب والمعاناة الأكبر حجمًا. 

يقول بلووم: «أريد أن أناقش وأؤكد على أهمية الوعي والمنطق، والمحاكمة العقلية في حياتنا اليومية، ووجوب سعينا لاستخدام عقولنا بدلًا من قلوبنا في مواجهة المسائل الأخلاقية». يدعم بلووم رأيه وأفكاره بالعديد من التجارب التي قام بها وضمّنها في كتابه، ويوضح أن الكثير من الناس، حينما يفكرون في التعاطف «empathy»، يفكرون بالعديد من الخصال الحميدة، حتى أن بعضهم يفكر بجوهر التعاطف كفعل الخير بشكل عام فقط، لذلك قد يثير كتابه المعنون «ضد التعاطف» حفيظة العديد من الناس، بل وقد يرعبهم. بينما يُقصد بالتعاطف الإحساس بآلام الآخرين ومعاناتهم. 

يدعي بلووم في مقال له في «Boston review» كثرة مناصري التعاطف، ويناقش مدى جودة القيم التي يدعون لها، كالإيثار والمحبة ومساعدة الغير، ويرى أننا كبشر، نملك ميلًا فطريًا للإحساس بالآخر، إذ أن رؤية إنسانٍ في ظرف صعب أو سماع صراخ شخص ما من الألم يزعجنا، ولا يقتصر هذا الشعور على البشر، فقد أبدت بعض قردة الشمبانزي نفس ردة الفعل هذه عند عرض نفس اللقطات عليها. يؤمن بلووم بنظر الآخرين للتعاطف في سياق فرضية « التعاطف -الإيثار» التي تفترض تحفّز الأشخاص لمساعدة الغير عندما يتعاطفون معه، لكنه يجد مشكلة صغيرة في ذلك.

فكيف يمكن للتعاطف أن يكون ذا آثار سلبية في ظل كل هذه المنافع التي يحفزها؟

يرى بلووم أن التعاطف متحيّز أو «Biased»، فنحن ميّالون للشعور بالتعاطف تجاه الناس الجذابين أو تجاه الأشخاص الذين يشبهوننا في الجنس أو العرق أو اللون أو الإثنيّة. كما يرى أن التعاطف ضيّق أو narrow إذ يربطنا عاطفيًا بعدة أفراد محددين، ويمنعنا من رؤية الصورة الشاملة ويجعلنا أقل استجابة أو حساسية للإحصائيات والبيانات الضخمة المتعلقة بمأساة ما، وهو ما برز في قول الأم تيريزا: «إذا نظرتُ إلى المشكلة الجماعية، لن أتخذ أي أجراء أبدًا، أما إذا نظرت إلى الفرد الواحد، فسأفعل». عبّر ستالين عن الأمر أيضًا بقوله: «موت شخص واحد فاجعة، لكن موت الملايين مسألة إحصائية». أظهرت الدراسات المخبرية ميلنا للاهتمام بمعاناة فرد واحد أكثر من معاناة عدد كبير من الأفراد، وفي ظل هذا التحيز قد نخطئ الحكم على الكثير من القضايا الأخلاقية، ولذلك، فحينما نضع التعاطف جانبًا نصبح أكثر منطقية وصوابًا في خياراتنا. 

قد يدفعنا سماع صوت امرأة عجوز مشردة تطلب بصوت متعب وحزين المال، للمسارعة في تقديم بعض المال لها، إلّا أننا لو وضعنا مشاعر التعاطف جانبًا، فقد نفكر في مساعدتها على إيجاد عمل، وقد لا نتأثر أو نتألم لألمها، لأن تألُمَنا لمعاناتها لن يحلّ أي مشكلة. وكذلك، فإذا تبعنا التعاطف الذي يجعلنا نفضّل مساعدة من يشبهنا في العرق والإثنيّة، فلن نبادر أو نتبرّع للأطفال المحتاجين في إفريقيا مثلًا. 

كما أنّ اتباعنا لصوت التعاطف الضيق والمنحاز، قد يدفعنا للتبرّع بالكثير من المال لطفل مشرد تعرفنا على مأساته وأثّرت فينا، بينما كان بالإمكان التبرع بذات الكمية من المال لجمعية موثوقة ومختصّة بالأطفال المشردين تستطيع استثمار المال بشكل أفضل. وبذلك، قد يمنعنا التعاطف الزائد من رؤية الصورة الكبرى وتقديم النفع الأمثل، وفي ضوء ذلك كله، فإن تعديل سياساتنا العامة والقوانين الدولية للتناسب مع فكرة أن مئة شخص ميّت كارثة أفظع من موت شخص واحد نعرف اسمه ونتعاطف معه، أمر ضروري وصحي.  

لكن، بغض النظر عن الدور السابق للتعاطف في التأثير على اتخاذ القرارات الكبيرة والسياسات العامة، ماذا بشأن علاقاتنا اليومية، سواء مع الأشخاص الذين نحبهم كعائلتنا، أو في علاقة المعالج مع مرضاه مثالًا؟ يبدو أن زيادة التعاطف إيجابية في هذه الحالات، بينما لا يتفق بلووم مع هذه النظرة كليًّا. 

يرفض بلوم النظرة السائدة المقتضية بكون الشخص الأكثر تعاطًفا هو الشخص الأكثر إنسانية، ويضرب مثالًا على ذلك بمعالجة نفسية جيدة جدًا، تشعر بمشاعر الآخرين بشكل مفرط، وقادرة على قراءة وجوههم وتحليلهم، والإحساس بمشاعرهم، فمرضاها دومًا يتكلمون أمامها بحرية وراحة، لأنها تفهمهم وتشعر بهم، ويشعر أصدقاؤها بالتقدير، ويتلقى أولادها الاهتمام الكافي، فكل ما سبق صفات جيدة، لكنه يتساءل كيف لحياتها أن تكون؟ خصوصًا مع الحالة الدائمة من فرط النشاط الاحساسي، يعتقد بلوم أن هذا الوضع سيكون مرهقًا جدًا بالنسبة له ، ويمكن للإنسان أن يحافظ عليه لفترة محددة من الزمن وليس بشكل دائم، وإلّا فإنه سيؤدي إلى استنزاف الشخص وضعف قدرته على تقديم دعم حقيقي لغيره. 

أجرت الدكتورة في علم الأعصاب والمعالجة تانيا سينغر تجاربًا بمساعدة الراهب البوذي والعالم السابق ماثيو ريكارد، تضمنت صور  MRI لدماغ الراهب، إذ طُلب منه إجراء جلسة تأمل على مبدأ العطف أو compassion، تجاه أشخاص يعانون، وإجراء جلسة آخرى بتخيل نفسه في مكان الأشخاص الذين يعانون ومشاركتهم إحساسهم. المثير للاهتمام أنه في الحالة الأولى، لم تتفعل أجزاء الدماغ التي تتفعل عادة عند التفكير بمعاناة الآخرين، وفي الحالة الثانية تفعلت، لكن التأمل لم يكن مريحًا، حتى أنه أصبح لا يطاق. وهناك العديد من التجارب الأخرى التي تدعم فكرة حالة الإرهاق التي يتسبب بها استمرار التعاطف. 

قد يبدو الأمر برمته غير مهم في البداية، لكن الدعوة لنبذ التعاطف كقيمة أساسية ما هي إلّا دعوة إلى إعمال العقل أكثر واستخدامه في اتخاذ قراراتنا الحياتية وصولًا إلى السياسات العامة، وكيفي اتخاذنا لقرار مساعدة الآخرين، وليست، على الإطلاق، دعوة لنبذ الحب والعطف ومساعدة الآخر والتحول لرجال آليين بلا مشاعر، فالتعاطف سلاح ذو حدين، ليس سلبيًا بالمطلق، ولكنه بالمقابل ليس إيجابيًا بالمطلق

المصادر

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا