في بريتون وودز في نيو هامبشاير في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1944، وبينما كانت رحى الحرب العالمية الثانية تدور في أوروبا وآسيا، اجتمع ممثلو أربع وأربعين دولة من دول الحلفاء للاتفاق على نظام اقتصاديّ جديد وتعاون دولي يساعد الدول في التغلب على الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب.

ما الذي أدى لاتفاقية بريتون وودز

بعد سنين من التخطيط سعى ممثلو الدول المجتمعين في بريتون وودز إلى إنشاء نظام مالي عالمي يتجنب المطبات التي وقع فيها العالم بسبب النظام المالي القديم ويمهد الطريق لتعاون مالي قوي بين الدول. في فترة ما بين الحربين اتخذت حكومات العالم إجراءات تقشفية قاسية وفرضت سياسات تجارية صارمة أدت إلى تفاقم آثار الكساد الكبير الذي حدث عام 1929.

صورة اجتماع بريتون وودز؛ المصدر أسوشيتد برس
صورة اجتماع بريتون وودز؛ المصدر أسوشيتد برس

بريتون وودز واعتماد الدولار عملة عالمية

يُعرّف معيار الذهب بأنه نظام نقدي تُربط فيه عملة الدولة الورقية مباشرةً بالذهب. وفقًا لهذا المعيار، توافق الدول على تحويل عملتها الورقية إلى قيمة ثابتة من الذهب. كان هذا النظام يُعمل به قبل اتفاق بريتون وودز، ولكن بعد اتفاق بريتون وودز، وافقت الدول الحاضرة للاجتماع على استبدال معيار الذهب بالدولار الأمريكي. أدى هذا الانتقال إلى زيادة الطلب على الدولار رغم أن قيمته بالنسبة للذهب بقيت على سابق عهدها. 2

بريتون وودز وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي

من أهم مقررات اتفاق بريتون وودز اعتماد إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. تتبع المنظمتان للأمم المتحدة ومهمتها الأساسية منع الأزمات الاقتصادية مثل الكساد العظيم.

يُعد صندوق النقد الدولي بعد إنشائه في مؤتمر بريتون وودز مسؤولًا عن إنشاء وإصلاح النظام المالي العالمي، النظام الذي تجري فيه عمليات الدفع بين الدول، ويوفر صندوق النقد الدولي آلية منهجية لمعاملات التبادل الخارجي بين الدول من أجل تعزيز الاستثمار وترويج التجارة العالمية.

شعار صندوق النقد الدولي المصدر رويترز
شعار صندوق النقد الدولي المصدر رويترز

في المقابل يكرس البنك الدولي (سابقًا البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية IBRD) نفسه لتوفير النصيحة الاقتصادية والبحث للدول النامية للمساعدة في نموهم الاقتصادي. يتصرف البنك في أغلب الأحيان بصفته منظمةً تكافح الفقر من خلال عرض مساعدة تنموية للدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض.

البنك الدولي
البنك الدولي

مؤتمر بريتون وودز وتصميم النظام المالي العالمي

اعتمدت التجارة الحرة على قابلية تحويل العملات بحريّة. خَلُصت المفاوضات في مؤتمر بريتون وودز، التي خرجت من رحم الأزمة الخانقة المسماة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، إلى أن التقلبات المالية ستعطل التدفق السلس للتجارة الحرة.

وضعت مقررات مؤتمر بريتون وودز نظامًا أساسه أسعار صرف ثابتة. وسعت تلك المقررات لتشجيع تأسيس نظام مالي من خلال التزام الأعضاء بقابلية تحويل عملاتهم إلى عملات أخرى وبالتالي إلى نظام التجارة الحرّة.

اقترح عالم الاقتصاد الإنجليزي جون كينز الحاضر ممثلًا عن بلاده في مؤتمر بريتون وودز أن تكون هناك عملة مرجعية تُدعى باكنور (وهي عملة عالمية لم ترَ النور)، تكون هذه العملة بمثابة بديل لمعيار الذهب، لكن الولايات المتحدة اعترضت وضغطت من أجل أن يكون الدولار هو العملة المرجعية، ما يعني أن الدول الأخرى ستربط عملاتها بالدولار الأمريكي.

 جون كينز في مؤتمر بريتون وودز ممثلًا عن المملكة المتحدة
جون كينز في مؤتمر بريتون وودز ممثلًا عن المملكة المتحدة

كان الدولار الأمريكي في وقت مؤتمر بريتون أكثر عملة تملك قوة شرائية وكان العملة الوحيدة التي يدعمها الذهب، إضافةً لذلك كانت معظم الدول الأوروبية الداخلة في الحرب العالمية الثانية مدينة جدًا ونقلت كميات كبيرة من الذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

معركة بريتون وودز

رغم أن ممثلي أربع وأربعين دولة اجتمعوا في بريتون وودز إلا أن الدولتين المهيمنتين كانتا الولايات المتحدة وبريطانيا. كان على رأس وفد بريطانيا الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون كينز وعلى رأس وفد الولايات المتحدة كبير الاقتصاديين في وزارة الخزانة الأمريكية هاري ديكستر وايت. كانت خطة وايت تفضل الحوافز الموضوعة لإنشاء استقرار في الأسعار داخل اقتصادات العالم، بينما أراد كينز نظامًا يشجع النمو الاقتصادي. في ذاك الوقت كانت الفجوّة بين أفكار كينز ووايت شاسعة. كان وايت يريد أساسًا صندوقًا يعكس التدفق غير المستقر لرأس المال بصورة أوتوماتيكية. اقترح وايت إنشاء مؤسسة مالية جديدة تُدعى «صندوق الاستقرار» يُمول برأس مال كبير من العملات الوطنية والذهب ومهمته الحد بشكل قوي من الائتمان الاحتياطي. بينما أراد كينز حوافز من الولايات المتحدة لمساعدة بريطانيا وبقية دول أوروبا لإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. أقرّ كينز بصعوبة إنشاء نظام توافق عليه كل الدول وقال في خطابه في جلسة الختام: «سيدي الرئيس، نحن المجتمعون هنا في بريتون وودز، حاولنا الوصول إلى شيء يصعب الوصول له، كانت مهمتنا إيجاد طريقة متوافقة، معيار متوافق، وقاعدة عامة يقبلها الجميع ولا تزعج أحد». 

ما هي نقاط قوة نظام بريتون وودز

يمكن ملاحظة ثلاث نقاط قوة لنظام بريتون وودز:

  1. كان أداء الاقتصاد الكلي أمرًا جديرًا بالملاحظة. كانت نسبة التضخم أقل بالمتوسط للدول الصناعية باستثناء اليابان من الفترة اللاحقة لتعويم أسعار الصرف حتى تسعينيات القرن العشرين. إضافةً لذلك، كان تقلب التضخم ودوام التضخم أقل من التعويم الذي لحقه. ميّزت أسعار الفائدة الاسمية المنخفضة والمستقرة نظام بريتون وودز. في نهاية المطاف، كان نمو دخل الفرد أعلى من أي نظام مالي منذ عام 1879، لكنه كان متقلبًا أكثر من الفترة التي تبعته.
  2.  كانت درجة استقرار أسعار الصرف في صالح نظام بريتون وودز من التقلب الذي حصل في الفترات التي سبقته والتي تبعته.
  3. حدث توسع غير مسبوق في التجارة العالمية والاستثمار خلال سنوات نظام بريتون وودز.

ما هي نقاط ضعف نظام بريتون وودز

يمكن ملاحظة أربع نقاط ضعف في نظام بريتون وودز:

  1. في سنوات العمل بنظام بريتون وودز قيّدت الحكومات حركة رأس المال العالمي، ما أدى إلى الحد من تدفق رأس المال العالمي.
  2. صُمم نظام بريتون وودز ليعمل بصفته نظامًا مُثبتًا لأسعار الصرف، كانت التعديلات في التكافؤ مطلوبة من وقت لآخر عندما تتباعد السياسات الاقتصادية بين دولتين. من الصعب معرفة كمية التعديل، لكن الضغوطات والقوى المتناحرة كانت تجبر اللجوء إلى التعديلات. لم تستطع الحكومات مقاومة قوى السوق. ولكن الدول الأوروبية والولايات المتحدة لم تكن مستعدة للسماح بتعديل أسعار صرف عملاتها.
  3. في النهاية جرى تعديل التكافؤ، ولكن بعد جهد جهيد وأزمات اقتصادية. كان تخفيض قيمة العملة يُقاوم بصفته إجراءً حكوميًا اقتصاديًا فاشلًا ما يؤدي إلى خسارة الانتخابات المقبلة. لم تقبل فرنسا تخفيض عملتها لأنها أرادت أن تخفض الولايات المتحدة قيمة عملتها ليشير ذلك إلى سوء الإدارة الاقتصادي للولايات المتحدة. كانت زيادة حركية رأس المال تجعل من أسعار الصرف المثبتة غير فعّالة.
  4. تحت نظام بريتون وودز كان يُطلب من الولايات المتحدة فقط أن تحول عملتها المحلية إلى ذهب.

كيف انهار نظام بريتون وودز

بدأ العمل بقرارات بريتون وودز عام 1959، ولكن في ستينيات القرن العشرين كانت قيمة الدولار الأمريكي بالنسبة للذهب تحت نظام بريتون وودز تُرى على أنها قيمة مبالغ فيها. في أغسطس من عام 1971 أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التعليق المؤقت للعمل بتحويل الدولار الأمريكي إلى الذهب. بينما كان يعاني الدولار الأمريكي خلال معظم ستينيات القرن العشرين نتيجة التكافؤ المتفق عليه في مؤتمر بريتون وودز، أعلنت هذه الأزمة بداية النهاية لنظام بريتون وودز. جرت محاولة خجولة لإعادة إحياء قرارات مؤتمر بريتون وودز لكنها باءت بالفشل وفي مارس من ذاك العام بدأت العملات بالعوم ضد بعضها.

 الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يوقع الخطة الاقتصادية الجديدة
الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يوقع الخطة الاقتصادية الجديدة

منذ انهيار نظام بريتون وودز، أصبح أعضاء صندوق النقد الدولي أحرار في اختيار أي نوع من اتفاقيات التبادل التي يرغبون بها (باستثناء معيار الذهب)، ما سمح بتعويم العملات بحرية، ربطها بعملة أخرى أو بسلة عملات، اعتماد عملة بلد آخر، الاشتراك في تكتل عملات أو تشكيل جزء من الاتحاد النقدي.

كيف نتعلم من نظام بريتون وودز في وقتنا الحالي

بعد أزمة كوفيد-19 التي عصفت بالعالم والتي جعلت الاقتصاد العالمي، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، يتقلص بنسبة 4.4% وكلفت خسائر تُقدر بـ 11 تريليون دولار. ترى كريستالينا جورجيفا المدير العام لصندوق النقد الدولي أننا في الوقت الحالي نواجه ما تدعوه «لحظة بريتون وودز»، وتقول إن ما كان صحيحًا في وقت انعقاد مؤتمر بريتون وودز يبدو صحيحًا الآن، وإن سياسات الاقتصاد الكلي الحكيمة والمؤسسات القوية أمر ملّح من أجل النمو وتوفير الأعمال وتحسين ظروف العيش. ولكنها ترى أن هناك أمر مختلف واحد، وهو أن السياسات يجب أن تُشكل بحسب احتياج كل دولة على حدة. يجب أن يبقى الدعم أمرًا جوهريًا لبعض الوقت، وأن سحب هذا الدعم في وقت مبكر يهدد بعواقب اقتصادية لا تُحمد عقباها. إن مدى الأزمة سيحدد الشكل المناسب لهذا الدعم، الذي يجب أن يكون مركزًا ومدروسًا حتى تبدأ الدول بالتعافي.

إن وضع العالم حين عُقد مؤتمر بريتون وودز يشابه إلى حد كبير بما يحدث الآن، إذ إن الأوضاع في وقتنا الحالي كما كانت عام 1944 يمكن التخفيف منها فقط من حلال التعاون الدولي الذي تقوده الدول الكبرى. إن الأزمات العالمية تتطلب حلولًا عالمية، وهناك تشابه آخر بين ما يحدث حاليًا وما كان يحدث في وقت بريتون وودز وهو أن التعاون العالمي في أدنى مستوياته. في عام 1944 وقت انعقاد مؤتمر بريتون وودز كانت المنظمات التي تضع تحت جناحها أطرافًا عدّة مثل عصبة الأمم وبنك التسويات الدولي ولكن تلك المنظمات كانت متشرذمة وبعيدة كل البعد عن جمع كل الدول تحت غطائها. في وقتنا الحالي لا يُعد النظام الدولي متصدعًا إلى ذاك الحد لكن يوجد فيه عواقب ومطبات كثيرة وهذا درس يجب أن نتعلمه من بريتون وودز.

الدرس الثاني الذي يجب أن نتعلمه من بريتون وودز أن الإصلاح المنهجي يتطلب قيادة جماعية من الدول الكبرى. في وقت بريتون وودز كان على فريق وزارة الخزانة الأمريكي أن يتغلب على أصوات المعارضة الداخلية ليخرج بصيغة المؤتمر في ذاك الوقت، وبالمثل يجب أن تُبنى تحالفات عابرة للدول ويجب رد الهوّة بين الولايات المتحدة والصين إذا ما أردنا الخروج من هذه الأزمة الخانقة بسلام.

والدرس الثالث الذي يجب أن نتعلمه من بريتون وودز أن المفاوضات من أجل الإصلاح تأخذ وقتًا إلا أنها يجب أن تتم قبل أن تختفي الأزمة. أمضى فريقا المفاوضات الأمريكي والبريطاني عامين للتمهيد من أجل انعقاد مؤتمر بريتون وودز، ولو أنهم لم ينجحوا بالتوصل إلى اتفاق في عام 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 لكان من شبه المستحيل أن ينجح المؤتمر.

 

المصادر:

المصدر الأول

المصدر الثاني

المصدر الثالث

المصدر الرابع

المصدر الخامس

كتاب الأعمال الكاملة لجون ماينارد كينز (The Collected Writings of John Maynard Keynes)

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا