على الرغم من أننا قد نرغب بالاعتقاد بأن القتلة إما غير أكفاء مرضيًا، أو أنهم مجرمون متشددون، إلا أن الغالبية العظمى للأشخاص الذين يرتكبون جرائم القتل، يكونون -حتى يوم الجريمة- طبيعيون للغالية، هذا ما كشفته الدراسة أجراها الباحث وعالم النفس التطوّري الرائد «ديفيد باس» في كتابه (لماذا عقولنا مصممة على القتل ؟- القاتل بجوارك )؛ حيث أظهرت بأن 91% من الرجال، و84% من النساء يملكون -على الأقل- تخيّلًا واحدًا كهذا، وغالبًا ما يكون مكثّفًا ومفصّلًا بشكل مذهل فيما يخص هذه الجريمة التخيّلية.

 يطرح باس في الكتاب نظرة ثاقبة على العالم السفلي المظلم للعقل البشري، ويكشف كيف أن الضغوط التطوّرية قد تكيّفت مع عقولنا للقتل، ويأخذنا في رحلة إلى عقل القاتل، مع قصص مؤثرة حول بعض الحالات المحددة، وروايات القتلة الخاصة عن الأسباب التي دفعتهم للقتل. ففي الوقت الذي تقترح فيه النظريات المتعلّقة بالقتل بأنه شيء خارج الطبيعة البشرية، وسببته عوامل خارجية مثل (تأثير الوسط المحيط أو الثقافة المشوّهة، أو الفقر، أو إساءة المعاملة في الصغر)؛ يجادل باس بأن القتل متأصل فينا في المقام الأول!

طوّرت عقولنا تكيّفات مع القتل

بسبب دهور من التطوّر البشري، كان القتل مفيدًا بشكل مذهل لدى الأسلاف، فقد لعب دورًا محوريًا في تزاوجهم والعملية الإنجابية حين كان يتصارع رجلان حتى الموت ليحظى القوي منهما بالأنثى.

تقوم فكرة باس باختصار على مبدأ أن هناك منطقًا أساسيًا لـ  القتل، «لا يرحم لكنه عقلانيّ »، ولا يكمن فقط في أذهان الأشخاص الذين أصبحوا قتلة فحسب، بل في أذهاننا جميعًا، فقد طوّر العقل البشري تكيّفات مع عملية القتل ، وغالبًا ما تكون مصحوبة بحوار داخلي، على هيئة أنماط فكرية متأصلة فيه بمشاعر قوية من شأنها أن تحثّه على ارتكاب فعل القتل ، مثل ما تفعل الكراهية غالبًا، والحسد والجشع، في بعض الأحيان، والخوف والغيرة في أحيان أخرى، وقد تؤدي مجموعة معقدة من تلك المشاعر إلى تحفيز الشخص على القتل ، لذا يمكن القول بأنه نتاج ضغوط تطورية واجهها جنسنا البشريّ وتكيّف معها.

استعرض باس في كتابه « القاتل بجوارك » نظريات العنف والإجرام بشكل عام كنظرية البيئة الاجتماعية، وعلم الأمراض، والنظريات الاجتماعية بطريقة نقديّة، وخلص إلى أنها، وعلى نحو غير متوقع، لا تلائم الدوافع نحو القتل، كونها تعتبره مظهرًا متطرّفًا لسلسلة متصلة من العنف أو الإجرام، بينما يرى باس أن القتل يختلف اختلافًا نوعيًا عن جميع أشكال العنف الأخرى، فالأنماط الذي اكتشفها في المحفزات التي تؤدي لتخيلات القتل ، تدعم نظرية جديدة تقول بأننا جميعًا نأوي في دوائر أدمغتنا الخاصة بالأمور النفسية، فكرة القتل ، كحل لمشاكل تكيفية محددة، أطلق عليها اسم «الدائرة النفسية للقتل» أو «وحدة القتل».

يتيح لنا التفكير بالقتل -كما هو الحال في التخيّلات الجنسية- تصميم سيناريوهات بديلة، وتقييم الفوائد والعواقب الممتدة لكل منها، وبرغم أن أفكار القتل عادة ما تسبق فعل القتل، لكنها لا تؤدي إليه دومًا، أو في كثير من الأحيان. في الحقيقة تساعد هذه التقييمات على كبح جماح الدوافع القاتلة، وتثبيط نية القتل، لأننا عادة ما نقدّر التكاليف على أنها مرتفعة للغاية، ونختار حلولًا أكثر فعالية وسهولة، وأقلّها خطورة. ومع ذلك، فهذا لا يعني أنها ليست تعابير حقيقية عن نية بالقتل.

في « القاتل بجوارك » يقدّم باس حججه حول أسباب كون القتل من أجل التزاوج عبر العصور طريقة فعالة وملحوظة لتحقيق النجاح التطوري، ويمكن تلخيص هذه الحجج في اقتباس لعالم الأحياء الاجتماعي جوزيف لوبريتو: «إن حرمان الآخرين من حياتهم، لهي من أكثر الوسائل فعالية لزيادة البنية الجسدية».

 لكن برغم كل التقديرات والتقييمات، كان هناك عدد من الفوائد التي كان من الممكن أن يحصل عليها أسلافنا من قتل الآخرين مثل:

  • القضاء على خصم حاسم.
  • الحصول على موارد أو أراضي المنافس.
  • تأمين الوصول الجنسي لشريك المنافس.
  • منع المتطفلين من الاستيلاء على الأملاك أو الشركاء.
  • تكريس سمعة شرسة لردع الأعداء من المهاجمة.
  • حماية الموارد اللازمة للتكاثر.
  • القضاء على سلالة كاملة من المنافسين الجنسيين.

بالطبع يؤكد باس مرة أخرى في « القاتل بجواركل » أن كثيرين منا لم يقتربوا أبدًا من قتل شخص ما، وهذا صحيح لعدة أسباب، فهناك الكثير من النظم القانونية التي تحكمنا، بالإضافة للروادع الثقافية للقتل، فضلًا عن اختلاف وتطور الدفاعات بين الخصوم، الأمر الذي أدى إلى تحويل ذلك إلى سباق تسلّح.

لعبة التزاوج الخطرة

يشرح باس في كتابه « القاتل بجوارك » المنطق وشدة المنافسة للاختيار الجنسي، والاختلافات بين الجنسين في تفضيلات التزاوج، بما يضمن حراسة الشريك وحمايته، وما يرافقه من أنماط من شأنها قتل الشريك، إذ يمكن تفسير العديد من جرائم القتل من خلال علم النفس التطوّري في مجال المنافسة الإنجابية، ويُعد تفسيرًا أقوى من ذاك الذي قُدِم لتفسير المعدلات المرتفعة لعنف الذكور، إذ يُقدّم كتاب « القاتل بجوارك » سببًا موجزًا ونهائيًا لكون نسبة ارتكاب عمليات القتل عند النساء أقل من نظيراتها عند الرجال، فالأمر يسير على هذا النحو؛ يمكن أن يكون العنف ضد الرجال وسيلة لهزيمة المنافسين، لكنه في الوقت ذاته استراتيجية يائسة لتجنب البقاء دون شريك بالمطلق. 

وعلى النقيض من ذلك، لم يكن لدى النساء حافزًا قويًا تجاه العنف ضد منافساتهن، كما أن الصفات التي يرغب بها الرجال في الحصول عليها أكثر من غيرهم، كالجمال والإخلاص، لا يمكن إظهارها من خلال العنف. وبالنظر إلى أهمية رعاية النساء لأطفالهن، فقد ثبت بأن العنف سيكلّف المرأة الكثير مقابل النجاح في الإنجاب، كونهن سيتعرّضن لخطر الإصابة أو حتى الموت، مما يضر بفرصة رؤية أطفالهن يبلغون الرشد.

يقول الكاتب الأمريكي، جور فيدال: «تنجذب النساء إلى السلطة دومًا، ولا أعتقد بأنه من الممكن أن يكون هناك منتصر دمويّ لدرجة أنه معظمهن لن يكذبن معه عن طيب خاطر فقط لإنجاب إبنٍ ليكون شرسًا مثل أبيه».

لكن ما يثير الدهشة، بأن تجد حتى يومنا هذا بعضًا من النساء ينجذبن للغاية للقتلة المدانين. 

المفترسون الجنسيون

في كتابه، « القاتل بجوارك » بذل باس جهودًا كبيرة في الدفاع عن فكرته القائلة بأن قتل الشريك ربما كان بسبب بيئة التكيّف التطوّرية (الوطن الأم)، فشرح النتائج التي توصّل إليها حول قتل النساء لشريكهم الجنسي، وكيف أن النساء أقل دموية من الرجال، لكن عندما تتحوّل النساء إلى أعمال قاتلة، فهناك أسباب تحفيزية وتكيّفية محددة، ومختلفة بشكل ملحوظ عن تلك التي تحفّز الرجال.

قد يكون أحد أبرز الدوافع الرئيسية التي تحفّز القتل هي؛ الدفاع عن النفس، والرغبة اليائسة في الهروب من زواج خطير ومسيء، كما وتزداد تلك الحوافز إذا ما تم الإساءة إلى أطفالهن، ومن المثير للاهتمام، أن أفكار القتل لدى النساء، تكشف أيضًا عن اختلاف جوهري في الجنس، من المرجح أن ترغب النساء في قتل الشريك أكثر من الرجال، وفي كثير من الأحيان، لا يرغبن في القيام بالقتل بأنفسهن.

 الدم والماء

يتطرق « القاتل بجوارك » إلى الظروف التي تؤدي لقتل الآباء للأطفال، مثل حديثي الولادة الذين يعانون من عيب خلقيّ خطير، أو في حالة كان للمرأة أطفال من أب مجهول، أو معروف لكنه ليس ملزمًا فيهم من حيث الإعالة، فيلجأون لقتلهم أيضًا. أو عندما يكون لدى الشريكة الجديدة -الذي قُتل زوجها- أطفالًا، فيقتلهم الزوج الجديد، لأن أطفالها سيقفون عبئًا على مواردها لتربية الآخرين. كما يشرح باس بأنه في أمريكا، فإن الأطفال الذين يعيشون مع واحد أو أكثر من أزواج الأمهات أو زوجات الآباء، هم أكثر عرضة للقتل في المنزل بنسبة أربعين في المئة أكثر من الأطفال الذين يعيشون مع كلا والديهم الجيني.

يعرض باس أيضًا الحالة المعاكسة، وهي قتل الأبوين، حيث يقع الآباء ضحية مرتين كما الأمهات، ومعظم الأطفال الذين يقتلون والديهم هم من المراهقين الذكور، يعود سبب القتل هذا في كثير من الأحيان عندما يسيء الأب معاملة الأم، في يثور الولد ويتصرّف دفاعًا عن أمه.

ويشير إلى حالة نادرة إحصائيًا، والتي تنطوي على قتل الأخوة لبعضهم البعض، حيث يكون الدافع -إن حدثت- يدور دومًا حول موارد الوالدين التي تُعتبر في نهاية المطاف حاسمة في جذب النساء كالسلطة والسمعة الشرسة، والمال.

خلاصة القول

يمكننا القول عن كل ما ورد أنه عبارة عن إنارة للجانب المظلم للبشر، حيث يُعد الشرّ جزء من تركيبة الإنسان،  فالقتل هو غريزة مشفرة في نفسية الذكور البشرية في تصميم يدفع الرجال إلى القيام بذلك، لمكاسب شخصية، أو للتكاثر والإنجاب مثلًا، وفي الوقت ذاته، تقتل النساء عادة لحماية أمنهن الشخصيّ، أو مستقبلهن الإنجابي.

ولابد لنا من الاعتراف بمعقولية أن القتل البشري لم يكن يومًا من قبيل الصدفة، وبدلًا من ذلك فهو مُرمّز في نفسية الإنسان، ومن يقوم بفعل القتل، فإن ذلك بناءً على قرار شخصيّ لتلبية مصلحة ذاتية، وبشكل عام، يمكن أن يصبح معظم الرجال قتلةً إذا ما تم استفزازهم بما يكفي، ولكن ما يثير الدهشة في كثير من الأحيان عند معرفتنا أن معظم القتلة كانوا عاقلين، وأننا جميعًا يمكن دفعنا لارتكاب جريمة قتل نظرًا لمجموعة من الظروف قد تكون خاطئة، أو سيئة من شأنها أن تؤثر على حاجتنا الأساسية في البقاء على قيد الحياة أو التكاثر بنجاح.

———————- 

علاء شاهين

  • Bailey, K.G. (1987) Human Paleopsychology: Applications to Aggression and Pathological Processes. London: Lawrence Erlbaum.
  • Buss, D.M (2000) The Dangerous Passion: Why Jealousy is as Necessary as Love and Sex. New York: Free Press.
  • Buss, D.M. & J.D. Duntley (1998) Evolved homicide modules. Paper Annual Meeting HBES, Davis CA.
  • Buss, D.M. & J.D. Duntley (2002) Mating motives for murder. Paper Annual Meeting HBES, Rutgers Univ., New Brunswick.
  • Buss, D.M. & J.D. Duntley (2003) Homicide: an evolutionary psychological perspective and implications for public policy. In: R.W. Bloom & N. Dess (Eds.) 
  • Lopreato, J. (1984) Human Nature and Biocultural Evolution. Boston: Allen & Unwin.
  • Mealey, L.J.M. (2000) Sex Differences: Developmental and Evolutionary Strategies. San Diego: Academic Press.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا