لم يكن أبو العلاء المعري شاعرًا عاديًا يتغزل في أشعاره بجمال عيني فتاة ما هنا أو بقوامها الممشوق هناك، بل كان فيلسوفًا من الطراز الرفيع، وصاحب عقل تنويري عظيم سبق رينيه ديكارت بقرون باتباع منهجية الشك وتمسكه بمبدأ مركزية العقل. 

من هو أبو العلاء المعري ؟ 

أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي، أو أبو العلاء المعري، شاعر وفيلسوف ولد في مدينة معرة النعمان التي تتبع اليوم لمحافظة إدلب في سوريا، وفقد البصر في الرابعة من عمره بعد إصابته بمرض الجدري، لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة حياته بشكل طبيعي، فاحترف لعب الشطرنج، وشارك أقرانه في المناظرات الأدبيّة، سواءً كانت جديّة أم هزليّة. نشأ المعري في مدينة المعرة، مسقط رأسه، وتولى والده تعليمه، وانتقل بعد ذلك إلى حلب، وتابع تعليمه محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، ثمّ ارتحل إلى بغداد، وقابل هناك عبد السلام بن الحسين البصري وتزوّد من علمه.

يعد المعري من الشخصيات الجدلية في الأدب العربي خصوصًا بعد أن شكل شعره انقلابًا على التقاليد الثقافية التي كانت سائدة في عصره، والتي وضعها من قبله شعراء وأدباء العرب، فجاءت أشعاره تعبيرًا ذاتيًا عن تجارب حياته الخاصة، وعن تأملاته في الوجود، وكان لأشعاره دور هام في رفع شأن الأدب العربي مع تطرقه لخطوط حمراء لم يعتد الشعراء قبله على التطرق لها.

ضريح المعري في مدينة معرة النعمان جنوبي محافظة إدلب السورية.
ضريح المعري في مدينة معرة النعمان جنوبي محافظة إدلب السورية.

فكر المعري 

لم يجمع كتابات أبي العلاء المعري سوى مفهوم واحد، الشك، أما فيما عدا ذلك، قدم المعري أفكارًا متنوعة وصل بعضها حد التناقض. لا يمكن لنا عند قراءة مؤلفات المعري سوى ملاحظة التنوع الشديد في موضوعاته، فكان منهجه شمولياً في التأليف، وكانت فلسفته ونظرته للحياة ظاهرة بقوة في هذه الموضوعات، استند في هذا التنوع الفكري على ثقافة واسعة ومتنوعة. عند بلوغه السابعة والثلاثين من عمره، اختار المعري العزلة كمنهج لحياته، للابتعاد عن الناس لأنه رأى في مشاركة الناس بحياتهم إفسادًا للعقل وتشويهًا له. ذهب المعري في نظرته المثاليّة للحياة والوجود أبعد من ذلك عندما اعتبر أنّ هذه الأجساد التي تسكنها النفس البشرية سجناً لها. 

درس أبو العلاء المعري أخبار الشعوب، وشكل أفكاره الخاصة المبنية على التحليل العقلاني وعلى اتباع المنهج العلمي حيال الحياة ومفردات الكون. تنقل المعري، وفقًا لوصف طه حسين، بين ثلاثة سجون: «لم يكتفِ بالسجن الذي فرضته الطبيعة عليه فرضاً حين أفقدته ناظره، وإنما فرض على نفسه سجنين آخرين. أحدهما ظاهر محسّ يراه الناس جميعاً ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع والألم الممض، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء المعري لا يريمه، وفرض على نفسه لزومه مهما تكن الظروف وطلب إلى أهل المعرة ألا يخرجوه منه حتى حين يغير الروم على المدينة. والآخر سجن فلسفي تخيّله كما يتخيل الشعراء، واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة. وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه العقل والخيال جميعاً». 

يقول الباحث والناقد الدكتور عبد الرحمن دركزللي في بحث له حكل عنوان «فلسفة المعري»: «لا يجد أبوالعلاء، بعد النظر والتحقيق، إلا أن يعترف بأن هنالك حرية في الوجود، والعقل هو الدليل، لأن وجود العقل يقتضي أن الإنسان قادر على البحث والاختيار، ولو كانت الحياة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث، ولكان البشر بلا عقول أفضل منهم مزودين بها، بيد أن دور العقل محدود أمام دور القدر». 

منهج الشك في فلسفة أبو العلاء المعري 

سعى المعري في عزلته للدعوة إلى إعادة العقل البشري إلى مساره الفطري وذلك بإعادة المصداقية إليه، وتحريره أيضاً من الأفكار التي اكتسبها من العلاقات الاجتماعية التي تعمل على إفساد مصداقية العقل لأنها تُبنى على أوهام باطلة وخرافات متناقضة كان يعتبرها الكثير من الناس حقائق ومسلمات في الحياة.

كان الشك عند أبي العلاء المعري بمثابة نهج حياة سار عليه محاولًا الوصول إلى الحقيقة، ولا يمكن لنا أن نفسر التناقض الظاهري في كتاباته و أشعاره على أنه تناقض في شخصيته، وإنما يعكس هذا التناقض مراحل تردده بين اليقين واللايقين بين المنقول والمعقول، بين المتعارف عليه والجديد، بين التقليد والتجديد.

ويصطدم المعري في منهجية الشك التي يتبعها بكل ما هو متوارث، فلم يتعامل مع أي من المعطيات على أنها مقدسة، ورفض التسليم للقديم والمتوارث بحجة توارث الخبرات والمعارف، بل آمن بنفسه وبقدرة عقله على الوصول إلى الحقيقة بعيدًا عن النصوص المتناقلة، فقال: 

إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه                         لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ

يؤمن المعري بالعقل ويتخذه نبيًا، وينادي في اللزوميات:

يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ           ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء

كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل         مشيرا في صبحه والمســاء

فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة           عند المسير والإرســـاء

إنما هذه المذاهب أسبـــاب            لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء

ويقول:

ولا تصدق بما البرهان يبطله      فتستفيد من التصديق تكذيبا

ويقول: 

أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ      فاتّبعْهُ فكلّ عقلٍ نبي

ويؤكد مرارًا وتكرارًا على إيمانه بضرورة أن يكون الحكم الأول والأخير يجب أن يكون للعقل، فيقول: 

جاءت أحاديثُ إن صــحتْ فإن لها       شأنـا ولكن فيها ضعف إسنادِ

فشاور العقل واترك غيره هـــدرا       فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي

ويقول: 

في كل أمرك تقليدٌ رضيتَ به           حتى مقالك ربي واحدٌ ، أحدُ

وقــد أُمرنا بفكرٍ في بدائعه           وإن تفكر فيه معشر لحدوا؟

تطرق المعري لمسألة الألوهية بشيء من الإنكار تارة، وبأسلوب إيماني تارة أخرى فيقول في اللزوميات:

قلتم لنا خالقٌ حكيم         قلنا صدقتم كذا نقـولُ

زعمتموه بلا مكانٍ         ولا زمانٍ ألا فقولــوا

هذا كلام له خبـئٌ          معناه ليست لنا عقولُ

و يقول :

أما الإله فأمرٌ لست مدركه    فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا

ويتعجب المعري لماذا لا يتألم الله لعذاب الناس :

لو اني كلب لاعترتني حمية      لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس

ويقول: 

رأيت سجايا الناس فيها تظالم         ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما

ويرى بعض التناقض في الأحكام، فيقول:

أنهيتَ عن قتل النفوس تعمدا        وبعثت أنت لقبضها ملكين؟

وزعمت أن لنا معــادا ثانيا        ما كان أغناها عن الحالين

ويخاطب الله متسائلا، فيقول: 

إن كان لا يحظى برزقك عاقــل      وترزق مجنونا وترزق أحمقا

فلا ذنب يارب السماء على امرئ      رأى من ما يشتهي فتزندقا

كما أظهر المعري اعتراضه على بعض الأحكام الشرعية التي رأى أنها منافية للعقل، كعقوبة قطع يد السارق، فقال:

تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له     وأن نعوذ بمولانا من النـار

يد بخمس مئين عسجد فُديت     ما بالها قُطعت في ربع دينار

ولأنه يعيش في مرحلة الشك فإنه عاش حياته تواقًا للوصول إلى حالة اليقين، فيقول: 

أما اليقين فـلا يقين وإنما       أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

أو قوله : 

وقد عدم التيقن في زمان       حصلنا من حجاه على التظني

اصطدم المعري مع الشافعي ومالك بن أنس، ولم يرَ ضيرًا في الاجتهاد بما يخالف فتاويهم ما دام قادرًا على التفكير والحكم على الأمور، فيقول: 

وينفر عقلي مغضبا إن تركته      سدى واتبعت الشافعي ومالكا

ويشكك المعري في تدين الناس من حوله ويرى أنه تدين متوارث

وينشأ ناشئ الفتيان منــا           على ما كان عوّده أبوه

وما دام الفتى بحجى ولكن           يـعلمه التدين أقربوه

بالمقابل، ردد المعري أشعارًا تدل على إيمانه بخالق الكون، فقال:

سأعبد الله لا أرجو مثوبته           لكن تعبد إعظام وإجلال

خاتمة 

أبو العلاء المعري هو الشاعر الفيلسوف الذي أمضى حياته بحثا عن الأسباب المنطقية لوجوده، لذا بدت نزعته في الوجود تشاؤمية ساخرة. خلق منه عجزه الجسدي إنسانا ذا طاقة عظیمة استغلها بالتفكر الذي كانت حصيلته نصوصًا شعرية ونثرية تطرق فيها لأكثر المواضيع جدلية في الحياة ساعيًا للوصول إلى الحقيقة من خلال إحكام العقل والمنطق والتشكيك بأهم المسلمات.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا