يُجمع أغلب المؤرخين على وصف أبي يوسف يعقوب ابن اسحاق الكندي بفيلسوف العرب الأول مستندين إلى منهجيته الفلسفية وصياغته للمصطلح الفلسفي ومشاركته المهمة في نقل أعمال أرسطو والأفلاطونيين الجدد في العلوم والرياضيات إلى اللغة العربية، ودراسته لفلسفة علماء الهند، وتفسيره لنظرياتهم، وتعليقه عليها. صاغ الكندي نظريات أسلافه بأسلوب واضح ومفهوم بالنسبة لمعاصريه، فأقبل فلاسفة عصره على قراءة كتبه إقبالاً قل نظيره، لحسن اختياره للكتب التي ترجمها وفصاحته في صياغة جملها. كتب الكندي أعمالا عدة في مواضيع شتى، خاصة في علم النفس والكونيات كما اشتهر الكندي بكتاباته في مجال علم الفلك، وتفرد بنظرياته المتعلقة بـ فلسفة الأعداد . 

وضع الكندي مؤلفات في حقول متنوعة، وقد أورد له ابن النديم صاحب الفهرست 265 مؤلفًا تقريباً بين كتاب ورسالة، منها 32 في الهندسة، و 22 في الطب،22  في الفلسفة، و 16 في علم الفلك  و14 في الحساب، و32 في الهندسة، و12 في الطبيعيات، و7 في علم النفس، و9  في الموسيقى.

رحلة تنقل الكندي بين العلوم والفنون

كان الفلاسفة في العصرين الأموي والعباسي على دراية بالفلسفة اليونانية بشكل عام، وبعلم المنطق اليوناني بشكل خاص، لكن الكندي، يعد أول فيلسوف حقيقي في العصر العباسي.

كان والد الكندي يشغل منصبًا مرموقًا في ديوان الخليفة العباسي الخامس، هارون الرشيد، وهو ما سهل على الكندي الحصول على المعلومات والاطلاع على المخطوطات التي لم يكن بإمكان العامة الوصول إليها. بعد فترة قضاها الكندي في التعرف على الكتب والمخطوطات العلمية والفلسفية الخاصة بالبلاط، أصبح مؤهلًا للانتقال إلى بغداد للتعلم على أعلى المستويات، مدفوعًا بحماسه لدراسة الفلسفة والعلوم وساعيًا للارتقاء وكسب احترام المثقفين ومريدي العلم في بغداد، حتى وصل صيته إلى الخليفة المأمون. 

اتسم الخليفة المأمون بولعه بالتشجيع على التحصيل العلمي، وكان في تلك الفترة قد وسع ما يعرف ببيت الحكمة بهدف تحويله إلى مركز فكري لترجمة الأعمال العلمية المختلفة بما في ذلك الفلسفة اليونانية والبيزنطية. بعد مقابلته، عين المأمون الكندي في بيت المعرفة حيث تمكن الأخير من تكريس جل وقته وجهده على ترجمة الأعمال الفلسفية اليونانية والبيزنطية، وأصبح الفيلسوف، أرسطو، مصدر الإلهام الأكبر له. 

بالتأكيد، لم تقتصر مساهمات الكندي على «بيت الحكمة» فقط، بل شارك في العديد من المشاريع العلمية الأخرى التي أطلقها الخليفة المأمون، بما في ذلك المراصد الكبرى التي درس من خلالها الكندي النجوم والكواكب، وقارنها مع ما ورد في المخطوطات الفلكية اليونانية والبيزنطية. 

في مجال الفنون والموسيقى، ساهم الكندي في شرح ميزات ترتيب الصوت، وتوصل إلى أن الإيقاع يأتي من ترتيب نغمات موسيقية معينة، وإلى أن كل نغمة تحمل درجة دقيقة وإلى تعذر الوصول إلى الإيقاع بزيادة تلك الدرجة أو إنقاصها، ولذلك، يتوجب وضع مخطوطة لشرح كيفية الحصول على النغمة. تحدث الكندي أيضًا عن كون الإيقاع تكراراً للنغمات الموسيقية، ولعل أعظم اكتشاف للكندي في مجال الموسيقى في عصره هو توضيحه لسبب سماعنا الأصوات من خلال توالد الموجات الصوتية التي تحفز غشاء الطبل في الأذن. 

لم تقتصر مشاركة الكندي على ما سبق، بل أسهم مساهمة كبيرة في مجال الطب، وإليه يعزى الفضل في تطوير ذلك العلم من خلال اكتشافه التصنيف التنظيمي للجرعات الواجب إعطائها للمريض، ولقد حدد بشكل مفصل في إحدى كتبه الجرعة الصحيحة لكل دواء كان يستخدم في عصره، مما ساعد على توحيد تحضير الوصفات الطبية.

الكندي والرياضيات 

في الرياضيات، أبدع الكندي في مجالات الهندسة والحساب، وكان له دور كبير في إدخال الأرقام الهندية للعالم وكتب العديد من الكتب والرسائل التي كان لها تأثير كبير على الحركة العلمية في العالم أجمع، من بينها: كتاب في مبادئ الحساب ومخطوطة في علم الأعداد وكتاب في استعمال الحساب الهندي ورسالة شرح فيها الأعداد التي استخدمها الفيلسوف اليوناني، أفلاطون، ورسالة في تناسق الأعداد.  

سخر الكندي جزءًا لا بأس به من وقته لدراسة الهندسة، فترجم الكثير من مؤلفات علماء اليونان ووضع العديد من المخطوطات الهندسية التي غيرت فهم البشرية لهذا العلم، بما في ذلك رسالة عن علم الهندسة الكروية، رسالة عن كروية الأرض، رسالة في الأشكال الكروية، رسالة في الهندسة المستوية، كتاب في تسطيح الكرة، رسالة في دائرة البرج، رسالة في علل الأوضاع النجومية، كتاب في اختلاف المناظر، رسالة في صنعة الاسطرلاب بالهندسة، رسالة في اختلاف مناظر المرآة.

فلسفة الأعداد عند الكندي 

بحث العالم والفيلسوف اليوناني فيثاغورس في نظرية الأعداد، وكانت الأعداد بالنسبة له مرتبطة بالمفاهيم غير الملموسة، وربط بذلك بين الرياضيات والفلسفة فكان الواحد، وفقًا له، مرتبطًا بالعقل والاثنان بالفكر والأربعة بالعدالة. لا يوجد ارتباط واضح بين كتابات فيثاغورس المتعلقة بنظرية الأعداد ومؤلفات الكندي المتعلقة بـ فلسفة الأعداد ، لكن من الممكن أن يكون الأخير قد تأثر بكتابات فيثاغورس فربط بين الواحد، أو الوحدة، وبين الرب، أو علة الوجود ومصدر التعددية. 

عمل الكندي على التمييز بين الوِحدة والتعددية من خلال رفضه للعدد واحد بصفته عدد، ووصفه بأنه وحدة، أو (Unit)، تنبثق منها التعددية. وفي محاولاته للوصول إلى هذه النتيجة استعان الكندي بـ فلسفة الأعداد والرياضيات عند كل من أفلاطون وأرسطو لبناء حجة متنية. عانى الكندي في محاولاته لصياغة هذه الآراء في فلسفة الأعداد والرياضيات لأن اللغة العربية لم تكن في عصره تحتوي على المصطلحات الفلسفية المناسبة، مما اضطره إلى صياغة كلمات جديدة للتعبير عن أفكاره الفلسفية.

بحث الكندي في إمكانية أن يكون الواحد عددًا دون أن يكون كمية بينما بقية الأعداد جميعها كمية، وفي هذه الحالة لن يكون للوحد خاصية الكمية أي كونها متساوية وغير متساوية. يمكن وفقًا للكندي، تسمية الواحد عددًا باشتباه الاسم (equivocally) وليس بالطبع ( (by nature، أي بالتّسمية فقط وليس بالفعل، وستكون هذه هي الطريقة الوحيدة لوصف الواحد بالعدد. قال الكندي:

«فإذًا الواحد ليس بعدد بالطبع، بل باشتباه الاسم، إذ ليس تقال الأعداد إلا بالإضافة إلى شيء واحد: فالطبيات الى الطب، والمُبرئات إلى البُرء».

بعض من حجج الكندي لرفض تصنيف الواحد كعدد: 

  1. تميز الواحد بالفردية مقارنة مع الأعداد الأخرى التي تتصف بالتعددية. يعبر كل من القليل والكثير عن التعددية، لكن الفرق الوحيد هو أن الأول يعتبر أقل من الثاني في المقارنة. فعلى سبيل المثال، يمكننا اعتبار أن العدد 10 قليل عند مقارنته مع العدد 100 (الكثير في هذا المثال)، وبنفس الوقت يمكننا اعتبار العدد 100 قليل بالمقارنة مع الرقم 1000، وعلى هذا الأساس، يمكننا اعتبار العدد 2 هو القلة المطلقة، أو التعددية الأولى كما أسماها أرسطو. 
  2. اعتبر الكندي الواحد وحدة لقياس الأعداد، وليس عددًا، مستلهمًا ذلك من أفكار الفلاسفة اليونانية، ولاسيما أرسطو.  عرف أرسطو الأعداد على أنها مجموعة من الواحدات، وقام بتوضيح التشابه بين الوحدة في الأعداد وواحدات القياس. يرى الكندي أنك وكما تحتاج لوحدة طول مثلًا لقياس طول ما، فإنك تحتاج إلى وحدة للعد لعد الأعداد، وهذه الواحدة هي الواحد. وبما أن المتر ليس مسافة بحد ذاته وإنما وحدة قياس للطول، والغرام ليس وزنًا بحد ذاته، وإنما وحدة قياس للوزن، فالواحد ليس عددًا وإنما وحدة قياس للأعداد.

اهتم الكندي بالرياضيات والهندسة من جهة وبالفلسفة من جهة أخرى، وتفرد بين العلماء العرب بمحاولاته في المزج بين بينهما من خلال فلسفة الأعداد . رأى الكندي أنه من الممكن أن يكون العدد 2 قلة مطلقة كأول مجموعة، وبالتالي فهو أول عدد، لأنه رأى أنه من الممكن أن يتم تحديد التفرد عبر الواحدة التي يتم احتسابها بالواحد. كما اعتقد أن الوحدة غير قابلة للتجزئة مثلها مثل أي واحدة قياس، والعدد واحد لا يمكن تقسيمه كبقية الأعداد، فهو عدد باشتباه الاسم، وليس بالطبع.

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا