إذا ما ذكرنا العصر الذهبي للعلوم والإسهامات العلمية والثقافية التي ازدهرت فيها المنطقة الممتدة من وسط آسيا وحتى المحيط الأطلسي في ظل الدولة العباسية، حتى باتت تُعرف «بالعصر الإسلامي الذهبي»، حريّ بنا أن نذكر أبو بكر الرازي والذي وصفته سيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب «أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق».
من هو الرازي؟
هو أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي (864م-923م) طبيب وكيميائي وفيلسوف ورياضياتيّ مسلم. ولد في مدينة الري بالقرب من طهران، وكان من بين الأطباء البارزين وباحثي الطب في عصره، وقدم مساهمات ملحوظة في مجالات الطب النظري والعملي، وقد عُين لخبرته الواسعة رئيسًا للمستشفى الرئيسي في بغداد. تأثر الرازي بأبقراط وجالينوس، إلا أنه رفض العديد من تعاليم جالينوس في كتابه «الشكوك على جالينوس»، ما يجعله طبيبًا اعتمد على الطب المسند بالدليل خلال مسيرته الطبية في وقت مبكر من تاريخ الطب.
كان الرازي موسيقيًا وصرافًا حتى الثلاثينيات من عمره، عندما بدأ دراسة الطب في بغداد. أصبح أحد أعظم الأطباء في العصور الوسطى، إذ كتب أكثر من 200 عمل، نصفهم في الطب، والبعض الآخر في موضوعات تشمل الفلسفة واللاهوت والرياضيات وعلم الفلك والكيمياء.
كان أستاذه في الطب علي بن سهل ربن الطبري، وهو طبيب وفيلسوف ولد لعائلة يهودية في طبرستان (إيران الحالية). اعتنق ابن ربن الإسلام في عهد الخليفة العباسي المعتصم، فأخذه إلى خدمة البلاط، واستمر فيها في عهد الخليفة المتوكل. درس الرازي الطب وربما أيضًا الفلسفة مع ابن ربن. لذا، يمكن إرجاع اهتمامه بالفلسفة الروحية إلى هذا المعلم. سرعان ما تفوق الرازي على معلمه وأصبح طبيباً مشهوراً. عين مديرًا لمستشفى الري في عهد منصور بن اسحق بن أحمد بن أسد من السامانيين. وصلت شهرة الرازي إلى عاصمة العباسيين. دعاه الخليفة المكتفي ليكون مدير أكبر مستشفى في بغداد. يُعرف عن الرازي أذكى طريقة في اختيار موقع المستشفى الجديد، عندما طلب منه رئيس وزراء المكتفي، بناء مستشفى جديد، وزع قطع من اللحوم الطازجة في مناطق مختلفة من بغداد. وفحص بعد بضعة أيام القطع، واختار المنطقة التي عُثر فيها على أقل قطعة فاسدة، مشيرًا إلى أن «الهواء» كان أنظف وأكثر صحة هناك.
يُعتقد أن الرازي كان الأكثر أصالة وأعظم الأطباء في عصره. واستقطب بصفته مدرسًا للطب، الطلاب من جميع الخلفيات والاهتمامات وقيل إنه كرس نفسه لخدمة مرضاه، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء. أصبحت أعماله الطبية معروفة بين الأطباء الأوروبيين في العصور الوسطى بفضل الترجمة، وأثرت بعمق على التعليم الطبي في الغرب. أصبحت بعض أقسام منشوراته أجزاءً من مناهج الطب في الجامعات الغربية.
إسهامات الرازي في الطب
يعدّ كتاب الحاوي في الطب المكون من تسعة مجلدات من أبرز مؤلفاته، ويشمل مواضيع طبية مختلفة وانتقادات للمفاهيم اليونانية والأرسطية، ويحتوي على ملخصات كثيرة من مؤلفين إغريق وهنود إضافة إلى ملاحظاته الدقيقة وتجاربه الخاصة. يعكس هذا العمل العديد من الآراء المبتكرة، لذا اعتبر العديد من العلماء الرازي أعظم أطباء العصور الوسطى. وكان كتاب المنصوري في الطب الأكثر تأثيرًا في أوروبا، وهو كتاب من عشرة فصول خصصه الرازي لحاكم الري الأمير أبي صالح منصور بن إسحاق.
يعدّ كتاب «طبيب من لا طبيب له، أو من لا يحضره الطبيب» من الكتب القيّمة للرازي أيضُا، فقد كان ناصحًا طبيًا لعامة الناس، ولعل الرازي أول طبيب إيراني يكتب دليلًا طبيًا منزليًا، والذي يخدم الفقراء والمسافرين والمواطنين العاديين عند عدم وجود طبيب، لمعرفة الأعراض الشائعة وبعض الأمراض مثل الصداع ونزلات البرد والسعال والكآبة وأمراض العين والأذن، والمعدة، ووصفات الأنظمة الغذائية ومكونات الأدوية لهذه الحالات، ولهذه الكتابات قيمة كبيرة فيما يتعلق بتاريخ الصيدلة، إذ نُشرت كتب مماثلة لإرشاد عامة الناس وإرشاد العلماء إلى الوصفات الطبية بعد الرازي، ويُعرف هذا الكتاب أيضًا باسم «طب الفقراء».
رفض الرازي في كتابه الشكوك على جالينوس العديد من ادعاءات الأطباء اليونانيين، وذكر أن توصيفات جالينوس لم تتوافق مع ملاحظاته السريرية الخاصة في جوانب عديدة.
قدم مساهمات مهمة في علم الأعصاب وعلم التشريح العصبي. وذكر أن الأعصاب لها وظائف حركية أو حسية، ووصف 7 أعصاب قحفية و31 عصب نخاع شوكي. عين ترتيب عددي للأعصاب القحفية من العصب البصري إلى الأعصاب تحت اللسان. كان الرازي رائداً في علم التشريح العصبي، وقد جمع بين المعرفة بتشريح الأعصاب في الجمجمة والحبل الشوكي مع الاستخدام الثاقب للمعلومات السريرية لتحديد الآفات في الجهاز العصبي.
تشمل مؤلفات الرازي غير الذي ذُكر أعلاه: كتاب الجامع الكبير، وكتاب في الفصد والحجامة، وكتاب الطب الروحاني، وكتاب المدخل إلى المنطق، وكتاب هيئة العالم.
الرازي أبو طب الأطفال
كان الرازي أول من ميز الحصبة عن الجدري وكتب كتابًا قدم فيه الخصائص السريرية للمرضين بعنوان «الجدري والحصبة» وترجم إلى الإنكليزية، وكان الكتاب الأول الذي وصف الجدري والحصبة كمرضين منفصلين في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر، إذ اعتبرا سابقًا مرضًا واحدًا يسبب الطفح الجلدي، وتُرجم الكتاب أيضًا إلى اللاتينية واليونانية البيزنطية. اكتشف الرازي مادة الكيروسين الكيميائية والعديد من المركبات الأخرى. وكتب الرازي المعروف «بأبو طب الأطفال» كتاب «أمراض الأطفال» ويُرجح أن يكون النص الأول الذي يميز طب الأطفال باعتباره مجالًا منفصلاً للطب.
وقد نشر الرازي بالإضافة إلى أطروحته عن الجدري والحصبة، كتابًا آخر بعنوان «رسالة في أمراض الأطفال والعناية بهم»، ويُعرف هذا الكتاب في الغرب باسم «أطروحة حول أمراض الأطفال» أو «أمراض الأطفال» ويُعتقد أنه أول كتاب عن طب الأطفال. يحتوي الكتاب على 24 فصلاً وقد تُرجم إلى اللاتينية والألمانية والإيطالية والإنجليزية. أوضح الرازي عددًا من أمراض الأطفال والطفولة وعلاجها في هذه الفصول. دفع التقدم الهائل الذي أحرزه الرازي في مجال طب الأطفال بعض المؤرخين إلى اعتباره أبًا لطب الأطفال.
كما كان رائداً في طب العيون وكان أول طبيب يكتب عن علم المناعة والحساسية. تشير السجلات إلى أن الرازي اكتشف الربو التحسسي، وكان أول من حدد الحمى كآلية دفاعية ضد المرض والعدوى. كما كان صيدلانيًا، وكتب على نطاق واسع حول هذا الموضوع، إذ قدم المراهم الزئبقية. تنسب السجلات إليه العديد من الأجهزة والأدوات، بما في ذلك الملاعق والقوارير والخلاطات.
بعض آراء الرازي
تتشابه بعض آراء الرازي مع الآراء السائدة اليوم، إذ قال مرة أنه «يجب على الطبيب- رغم شكوكه- أن يجعل مريضه يصدق أنه يتعافى، لأن الحالة البدنية مرتبطة بالحالة النفسية». كما حذر من الاستخدام غير الضروري للأدوية، وخاصة تعدد الأدوية:
«إذا كان الطبيب قادرًا على العلاج بالعناصر الغذائية لا بالأدوية، فقد نجح. ومع ذلك، إذا توجب عليه استخدام الأدوية، فيجب أن تكون علاجات بسيطة وليست مركبة».
آمن أبو بكر الرازي بأهمية العقل العليا، وجادل بأن للعقل قدرة فطرية على التمييز بين الخير والشر، وبين ما هو مفيد وما هو ضار. لم يكن العقل بحاجة إلى أي إرشاد من أحد على حد قوله، ولهذا السبب كان وجود الأنبياء زائداً عن الحاجة.
ووجه الرازي أشد هجومه على الكتب المقدسة بشكل عام- بما في ذلك القرآن- لأنه رآها غير منطقية ومتناقضة مع ذاتها. كما أعرب عن اعتقاده بأن جميع البشر متساوون في قدراتهم الفكرية. لذا لم يكن منطقيًا أن يفرد الله فردًا واحدًا من بينهم ليكشف له حكمته الإلهية وتكليفه بمهمة إرشاد البشر الآخرين. وجد أيضًا أن أقوال الأنبياء وقصصهم تتعارض غالبًا مع أقوال الأنبياء الآخرين وقصصهم. فلو كان مصدرهم الوحي الإلهي كما يُزعم، لكانت وجهات نظرهم متطابقة. لذلك كانت فكرة الوسيط من الله خرافة بالنسبة له.
وبغض النظر عن صحة هذه الاعتقادات حول إيمان الرازي من عدمه، لا شك أن تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي قد سمحت للمفكرين الإسلاميين في القرن العاشر بالتمتع بالحرية للمناقشة ونشر أفكارهم «غير التقليدية». ولا شك أن الرازي أعظم أطباء الإنسانية قد حقق نقلة نوعية في الطب والعلوم، ما زلنا حتى الآن نستنير بمنتوجاتها.
المصادر:
- https://link.springer.com/article/10.1007/s00381-017-3493-z/figures/1
- https://www.medicalnewstoday.com/articles/323612#ibn-sina
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1420785/#:~:text=Al%2DRazi%20was%20a%20musician,%2C%20mathematics%2C%20astronomy%20and%20alchemy.
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6074295/#:~:text=At%20the%20age%20of%20thirty,of%20sulfuric%20acid%20and%20ethanol.
- https://en.wikipedia.org/wiki/Abu_Bakr_al-Razi#Legacy
- https://www.theguardian.com/commentisfree/belief/2010/may/10/islam-freedom-expression