لا يمكن لمن يقرأ تاريخ البشر على كوكب الأرض إلا أن يتعجب من كمية الدمار والاضطهاد التي تعرض لها الإنسان وممتلكاته عليه، فيكاد لا يخلو عام واحد منذ فجر البشرية إلى اليوم من اشتعال الحروب والغزوات والفتوحات بين المجتمعات، ناهيك عن حالات استهداف الأفراد من أبناء المجتمع الواحد التي تتراوح بين السرقة والاعتداء الجسدي والاغتصاب وحتى القتل دون حسيب أو رقيب. اقتصرت القوانين، في بداية تاريخ الحضارة البشرية، على مجموعة من العادات والتقاليد المتبعة في المجتمع لحماية القبيلة أو الجماعة فقط حتى لو كان ذلك على حساب أفرادها. مع تطور المجتمعات والدول والعلوم، ارتفعت قيمة الإنسان وظهرت الدساتير والقوانين التي تحدد للأفراد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات تجاه مجتمعاتهم، وظهر معها مفهوم حقوق الإنسان الذي حرص صيانة حياته وكرامته، والحد من العنف بين الناس، فمتى ظهر تحديدًا هذا المفهوم؟ وما هي مبررات ظهوره؟ وكيف تطور مع الزمن؟
مفهوم حقوق الإنسان
تعرف مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حقوق الإنسان بأنها: «حقوق نتمتع بها جميعنا لمجرد أننا من البشر، ولا تمنحنا إياها أي دولة. وهذه الحقوق العالمية متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. وهي متنوعة وتتراوح بين الحق الأكثر جوهرية، وهو الحق في الحياة، والحقوق التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش، مثل الحق في الغذاء والتعليم والعمل والصحة والحرية».
ظهور مفهوم حقوق الإنسان
بدأت فكرة حقوق الإنسان بالظهور للمرة الأولى بصورتها البدائية القديمة منذ بداية تكوين الحياة المشتركة لمجموعات من البَشر في العصور القديمة؛ حيث كان يتم تطبيق القواعد العرفية التي تضمن بعضاً من حقوق الإنسان، وتحرص على صيانة كرامته، والحد من العنف بين الناس؛ لتحقيق حياة سعيدة لهم، ومع مرور الوقت، تطوَر ضمان حقوق الإنسان ضمن القواعد العرفية إلى ضمانها وفق نصوص قانونية تقدمها الدَولة. وفيما يلي سرد لتاريخ حقوق الإنسان، والتطور الذي حدث لها عبر العصور.
حقوق الإنسان في العصور القديمة
حقوق الإنسان في حضارة وادي الرافدين
تعد حضارة وادي الرافدين من أقدم الحضارات البشرية وأشدها اهتمامًا بحقوق الإنسان. يذكر المؤرخون بأن كلمة حرية (أماركي) قد وردت في نص سومري لأقدم وثيقة عرفها العالم القديم تشير صراحة إلى أهمية حقوق الإنسان وتأكيدها على حريته ورفضها كل ما يناقض ذلك.
إصلاحات الملك أوروكاجينا
عثرت بعثة تنقيب فرنسية كانت تعمل في مدينة لكش في قضاء الشطرة (جنوبي العراق) على مخروط طيني مدون باللغة السومرية والخط المسماري يضم عددًا من الإصلاحات الاجتماعية التي وضعها العاهل السومري (أوروكاجينا) حاكم دولة مدينة لكش للقضاء على المشاكل التي كان يتذمر منها الشعب وإبعاد المظالم والاستغلال الذي كان يقع على الفقراء من الأغنياء والمتنفذين ورجال المعبد. وضع أوروكاجينا قوانين توفر للشعب الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، كما أمر بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية التي تهدف لتنظيم حياة الأسرة والمحافظة على مكانة المرأة واستقلاليتها في المجتمع السومري.
قانون أورنمو
يعد من أقدم القوانين المكتشفة في مجال حقوق الإنسان، ووضعها مؤسس سلالة أور الثالثة الملك السومري أورنمو، ويتكون من 31 مادة، ويعالج عددًا من المسائل الاقتصادية والاجتماعية مثل نشر العدل ورفع المظالم، والمحافظة على حقوق المرأة وغيرها.
قانون لبت عشتار البابلي
يعود إلى بداية العهد البابلي القديم، وأصدره الملك لبت عشتار، خامس ملوك سلالة إيسن السومرية. سبق القانون شريعة حمورابي بقرنين من الزمان، تضمن مقدمة وخاتمة و37 مادة تتمحور حول مواضيع تنظيم حقوق الناس والضرائب وشؤون المرأة والأطفال وغيرها من المواضيع الحقوقية.
قانون مملكة أشنونا
يعد من أقدم القوانين التي ضمنت حقوق الإنسان في المجتمعات القديمة، وسبق شريعة حمورابي بخمسين عام. وضع القانون الملك بلالاما، أحد أشهر ملوك مملكة أشنونا، وضم 70 مادة قانونية عالجت مواضيع الأسرة، وحقوق الزوجين، وتنظيم العقود القانونية والأحوال الشخصية.
شريعة حمورابي
أصدرها الملك حمورابي أشهر ملوك العهد البابلي، وكُتبت على مسلّة كبيرة من الحجر الأسود، وتعد وثيقة قانونية مهمة في حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لأنها مثلت أول مدونة وضعية للقانون، حددت قواعد العدل والإنصاف وما يرفع الظلم عن الأفراد بشكل عام والمرأة بشكل خاص. تألفت شريعة حمورابي من 282 مادة قانونية مدونة باللغة البابلية والخط المسماري، واشتملت بموادها المختلفة على قضايا تتعلق بالشهود والسرقة والنهب وشؤون الجيش والزراعة والقروض، كما عالجت الشؤون العائلية من زواج وطلاق وإرث وتبني وكلّ ما له علاقة بحياة الأسرة.
حقوق الإنسان في الحضارة الرومانية
يؤرخ للحضارة الرومانية أنها استمرت منذ تأسيس مدينة روما في القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن السادس بعد الميلاد، ولم يكن واقع الحرية وعلاقة الفرد بالسلطات، يتصف بالثبات فيها، ويلاحظ وجود ظواهر مشتركة لها مع الحضارة الإغريقية، فقد كان للعائلة رئيس يملك سلطة مطلقة على الأشخاص والممتلكات وتميزت بوجود نظام الطبقات، وكان التفاوت في الحقوق والواجبات بين الأفراد والطبقات هو الطابع المميز للمجتمع الروماني.
وصفت الحضارة الرومانية بالقوة، وبأنها حضارة عسكرية وقانونية، إذ تعددت ولاياتها، وكذلك الشعوب التي كانت تحت سيطرتها، وقد رافق ذلك تمييز بين المواطن الروماني وغيره من رعايا الامبراطورية، إذ كان قانون روما القديمة يضمن حق المواطن الروماني دون حق الأجنبي أو العبد، وهو ما يتنافى مع مبدأ المساواة أمام القانون. وقد وضع الإمبراطور الروماني حدا لهذا التميز منح بموجبه رعايا الإمبراطورية كافة صفة المواطن وأخضعهم لقانون موحد يستند إلى جميع الأعراف وقواعد العدالة، ويرتكز على فكرة القانون الطبيعي التي أبرزَ معانيها المفكر الروماني شيشرون، وأكد في إطارها إزالة الفوارق التي تتعلق باللغة أو العقيدة أو العرق، وأكد كذلك حرية الإنسان الذاتية المستقلة عن المجتمع.
وعلى الرغم من التمايز الطبقي في المجتمع الروماني، وضياع حقوق المرأة فإن القانون الروماني حمل في طياته بعض المميزات التي تفتحت في القوانين المعاصرة،إذ إنه يعترف بالحرية ويشجعها، وتعترف الدولة للمواطن بعدد من السلطات يمارسها بحسب هواه بكل حرية واستقلال، عدا قيود مستلزمات الأخلاق والعادات والرأي العام، وهي ليست قيوداً قانونية.
حقوق الإنسان في العصور الوسطى
تمثَلت حقوق الإنسان في العصور الوسطى بعدد من القوانين، والمواثيق، التي أصدرتها بعض الدول الغربية، وأهم هذه المواثيق التي تقر حقوق الإنسان هو ميثاق العهد الأعظم (الماجنا كارتا) في عام 1215، الذي فرضه أمراء الإقطاع في منطقة ماجنا كارتا على مَلكهم المستبد (جان)؛ بهدف الحد من سلطاته، والذي ضم مجموعة من الأحكام الأساسية التي تتعلَق بحق الملكية، والتقاضي، وضمان حرية التجارة، والتنقل، ومَنع فَرض الضرائب على الشعب دون موافقة البرلمان.
حقوق الإنسان في العصر الحديث
شهدت حقوق الإنسان في بداية العصر الحديث نَقلة نوعية، ونهضة كبيرة؛ حيث أدَت العديد من العوامل إلى صدور عدد من التشريعات، والمواثيق التي أَقرَت، وكرَست حقوق الإنسان؛ ففي عصر الملك (شارل الأول)، تم إصدار ما يعرَف بعريضة الحقوق 1628، التي تمثل مذكرة تفصيلية لحقوق البرلمان التاريخية، والتذكير بالحقوق التقليدية للمواطنين، ومن المبادئ التي أقرَتها هذه العريضة: «لا يجبَر أحد على دفع أية ضريبة، أو تقديم أية هبة، أو عطاء مجاني إلا بقرار من البرلمان»، بالإضافة إلى العديد من القوانين، والشرائع التي تقر حقوق الإنسان، وتَضمنها. وفي الآونة الأخيرة، بدأت حقوق الإنسان بدخول مرحلة جديدة من التطور، وهي المرحلة الدولية؛ حيث تحوَلت مواضيع حقوق الإنسان من الطابع الداخلي فقط إلى الطابع الدولي، والخارجي، وتزامَن هذا التحول في طبيعة حقوق الإنسان مع اندلاع الحرب العالَمية الأولى، وتأسيس عصبة الأمَم التي وضعت العديد من البنود، والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، كما تزامن أيضاً مع اندلاع الحرب العالَمية الثانية، وتأسيس ميثاق الأمَم المتَحدة الذي أشار في مضمونه إلى ضرورة تعزيز، واحترام، وحماية حقوق الإنسان كافَة.
المصادر:
- Human Rights evolution, a brief history, By Marco Sutto, From “The CoESPU MAGAZINE” nr. 3- 2019.
- Evolution of Human Rights Norms and Machinery, By Bertrand G. Ramcharan.
The history of human rights: From ancient times to the globalization era, Micheline Ishay University of California Press.