صاحب المقولة الخالدة «الظلم مؤذن بخراب العمران»، و «إذا أردت أن تعرف الانسان فانظر من يصاحب، فالطباع يسرق بعضها من بغض، فترى أننا نأخذ من طباع بعضنا دون أن نشعر» و«اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات»، كلها عبارات شهيرة نسبت إلى ابن خلدون، عباراتٌ عندما ندقق فيها ونفكر أكثر، نجدها صالحة لكل وقت، وبالرغم من كونها قيلت في العصر المملوكي، نجد أنها لا تزال مهمة وتنطبق على حياتنا وعلاقاتنا ومجتمعاتنا في القرن الثاني والعشرين.

أليست هذه بقفزة معتبرة عبر الزمن؟ 

إن التنبؤ بالمستقبل شغل لأجيال عقول باحثين ومفكرين وعلماء بالإضافة لمشعوذين ودالين وسحرة، إلا أن الأمر حتى الآن أقرب للخيال العلمي ويحمل في طياته تداعيات رهيبة، فمعرفة ما سيحدث في المستقبل أو حتى امتلاك فكره عنه تمكننا من المضي قدمًا بثقة أكبر من الحاضر، وباستعداد أفضل لما هو قادم. فمعرفتنا أننا سنواجه عدواً أو أن مدينتنا ستتعرض لهجوم، سيمكننا-وضوحاً- من أن نستعد، نحارب، ولربما نفوز. 

أما ابن خلدون، فلم يكن مهتماً بمعرفة المستقبل أو التنبؤ به مستخدما السحر والشعوذة والخداع، ولم يكن أصلاً يفكر في الأمر أو يحاول أن يتوقع مصير الشعوب والحضارات ودينامياتها، إلا أنه بشكل ما أو بآخر نجح في فهم الصورة الكبرى أو النمط العام لحدوث الأشياء، وهذا ما جعل ابن خلدون، الاسم الخالد في ذاكرة البشرية جمعاء. 

من هو ابن خلدون؟

ابن خلدون، هو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، عالم من علماء العرب والإسلام برع في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد، والتخطيط العمراني والتاريخ، امتاز برؤية متفردة في قراءة التاريخ وذلك بتجريده من الخرافات والروايات التي لا تتفق مع المنطق ليكون أول من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية، وأول من درس نشوء وتفكك الدول وفق رؤية كاملة شملت النظم السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والنقدية، إضافة لمستوى التقدم في العمران المدني. وأشهر مؤلفات ابن خلدون هي «المقدمة» وهي مقدمة طويلة تعد كتابًا بحد ذاته، لكتابه «ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

أما بالنسبة للتنبؤ بالمستقبل، فقد أتاه ابن خلدون بطريقه غير مباشرة، فقد هدف ابن خلدون إلى إدخال قانون السببية في بحوث التاريخ، لإثبات أنه علم من بين العلوم وظاهرة من الظواهر الطبيعية، وأنه يقوم على أساس الحقائق الواقعية والتجربة وقوة الملاحظة، وما يتبع ذلك من أقيسة يقينية في العالم المحسوس. وقانون السببية هذا يربط النتائج والوقائع المحسوسة، بأسبابها وعللها ويفسرها وينظمها ضمن أسس محددة واضحة، وأحياناً ثابتة. 

من بين النظريات التي وضعها ابن خلدون قوله إن الأحداث والوقائع التي تجري في الزمن الحاضر ولها ما يُماثلها من الأحداث والوقائع التي جرت في الزمن الماضي وفي المكان نفسه، فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها.

فالحوادث، وفق مفهومه، ترتبط مع بعضها بعضًا ارتباط العلة بالمعلول. ولذلك، يؤكد في كتاب «المقدمة» أن استقراء حوادث التاريخ ودراستها تقود إلى معرفة السبب، التي من شأنها أن تساعد على معرفة المسبب، وأن ملامح المستقبل لا بدّ أن تعود إلى أسباب تتفاعل في الزمن الحاضر. وعليه، فإن المستقبل يمكن التنبؤ به على أُسس علمية. 

فتنبؤ ابن خلدون بالمستقبل، تجلى في نظرياته حول نشأة المجتمعات، ازدهارها وسقوطها وانهيارها. فقد خصص لكل طور من هذه الأطوار خمسة أطوار ومظاهر خاصة نذكر منها: 

الأول: طور الظَفر: وهو طور التأسيس والنشأة ومن مميزات هذا الطور تكاتف الأفراد والمشاركة في السلطة، والحماية من العدوان. 

الثاني: طور الاستبداد: وهنا يبدأ الحاكم باحتكار السلطة السياسية، وينتج عن ذلك توتر سياسي. 

الثالث: طور الفراغ: ما يميزه هو العمل على تنظيم الحياة الاقتصادية، السعي للرفعة والشهرة والجاه، وصرف الأموال على الحاشية والأعوان، والعناية بالجند والتوسع. 

الرابع: طور القنوع أو القناعة: وسمي بذلك نسبة إلى قنوع الحاكم بما بناه الأوائل، ومسالمة حكام ورؤساء الدول الأخرى، وتقليد الأسلاف. 

الخامس: طور الإسراف: وهذا الطور الأخير من أطوار الدولة، ويرى ابن خلدون أن هذا الدور يمتاز باستهلاك ما أنتجه الأوائل والانغماس في الملذات والشهوات، وانتشار الفساد. 

وقد امتاز ابن خلدون أنه شبه الدول والأمم بالكائن العضوي الذي له عمر محدد، ومن خلال تأطير الدولة بالأطوار السابقة يمكن تحديد سير أو طريق ما ستسلكه الدولة بناء على معطيات عدة ومن ثم تحديد عمر تقريبي لها حسب ابن خلدون. 

 كما كتب يقول: «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنا فقون والمدّعون والكتابة والقوالون والمغنون النشاز والشعراء النّظامون والمتصعلكون وضاربوا المنّدل وقارعوا الطبول والمتفقهون وقارئوا الكف والطالع والنازل والمتسيّسون والمدّاحون والهجائون وعابروا السبيل والانتهازيون» وهذه الصفات تشاهد للآن في مجتمعاتنا

كما أورد صفاتًا محددة وجدها في الملك والحكم وهي الانفراد بالمجد والترف والدعة والسكون، وهي الرخاء وإيثار الراحة على المتاعب والاستمتاع بأحوال الدنيا. وهذه الصفات وجدها تتكرر وتنطبق على أغلب المجتمعات البشرية التي عاصرها ودرسها. 

وقد أفرد ابن خلدون عدة فصول في مقدمته الشهيرة للحديث عن مفهوم «التنبؤ بالمستقبل» ومعرفة الطالع وغيره من الأمور التي جذبت الملوك ونالت اهتمام ذوي الجاه. إلا أنه أوضح موقفه منها كونها تخالف ما جاء في الشريعة الإسلامية حول اقتصار معرفة الغيب للأنبياء والأولياء ومن اصطفاهم الله. كما أورد فصلاً يوضح ويشرح في معنى النبوة والوحي وكرامات الأولياء والأنبياء ومن بينها استشفاف المستقبل. 

ومما سبق نجد أن ابن خلدون، استطاع ومن غير سابق نية وإصرار، أن يتنبأ بأحوال الشعوب وصروفهم وما قد تأول عليه أحوالهم من ازدهارٍ أو اندثار، وقد أسس مدرسة كاملة في علم الاجتماع قائمة على تعاليمه، وبذلك، حصل من اسمه على نصيب وخُلد اسمه في التاريخ واحداً من أبرز أعلامِ المسلمين. 

المراجع: 

chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://futuresociologists.files.wordpress.com/2016/04/d986d8b8d8b1d98ad8a9-d8a7d984d8afd988d984d8a9-d981d98a-d8a7d984d981d983d8b1-d8a7d984d8aed984d8afd988d986d98a.pdf

ومقدمة ابن خلدون 

https://en.wikipedia.org/wiki/Ibn_Khaldun

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا