لماذا بدأت الحضارة في بلاد الشام والرافدين ومصر واليونان والصين ولم تبدأ في أدغال أفريقيا أو غابات الأمازون؟ لماذا استعمرت الدول الأوروبية أفريقيا والعالم الجديد بدلًا من العكس؟

هذه الأسئلة وغيرها طرحها جارد دايموند في كتابه أسلحة، جراثيم وفولاذ المنشور عام 1997، محاولًا تقديم إجابة مختلفة عن النظرة التقليدية الفوقية التي تنسب إنجازات الحضارة الغربية إلى تفوق عرقي مزعوم يضع الرجل الأبيض في منزلة فكرية تسمح له بصنع الحضارة أينما حل.

تعتمد نظرية دايموند على الصدفة والحاجة كسببين أساسيين يتفوقان على أي سبب عرقي، فكيف وصل إلى هذه النتيجة؟

يبدأ الاختلاف بين المجتمعات البشرية بالظهور عند تحول البشر من الالتقاط والجمع والصيد إلى مرحلة الزراعة وتربية الحيوان، ما أدى من جهة إلى بدء تجمع البشر في مستعمرات متنامية، وتأمين كمية كافية من الطعام سمحت للأفراد باستثمار الوقت في أمور أخرى غير البحث عن الطعام، الأمر الذي شكل بذرة الحضارة البشرية من مدن سومر وأكاد وانتهاء بالحضارة الغربية الحديثة.

لخص دايموند معايير ظهور الحضارة وتطورها في ثلاث نقاط أساسية، هي التجانس المناخي وتوفر الحيوانات القابلة للاستئناس والنباتات القابلة للزراعة.

بالنظر إلى هذه المعايير، نجد أن قارتي آسيا وأوروبا تتمتعان بأفضلية واضحة على بقية مناطق العالم، فالامتداد الجغرافي الشاسع على خطوط العرض ذاتها يوفر مناخًا متجانسًا يميل إلى الجفاف ويسمح بزراعة النباتات الأساسية للحضارة مثل القمح والشعير والذرة لأنها نباتات غنية بالقيمة الغذائية وقابلة للتخزين مدة طويلة، إضافة إلى استئناس الحيوانات مثل الخيول والمواشي والدواجن. يذكر دايموند 14 نوعًا حيوانيًا قابلًا للاستئناس على المناطق المنطقة الأوراسية، بينما لا تملك أمريكا الجنوبية سوى نوعٍعًا واحدًٍا هو اللاما، وتفتقر أفريقيا وأمريكا الشمالية وأوقيانوسيا إلى أي حيوان قابل للاستئناس في المجتمع الزراعي.

أدى هذا الاحتكاك المستمر إلى انتشار الأمراض المعدية وانتقالها من الحيوانات إلى البشر، مثل الإنفلونزا والحصبة والجدري والطاعون الذي أطاح بأكثر من ثلث سكان أوروبا في العصور الوسطى. لكن هذه الكوارث الوبائية قدمت للأجيال الأوروبية المتعاقبة أفضلية مناعية لا تقدر بثمن، تجلت هذه الأفضلية بانتشار الأوبئة التي غزت العالم الجديد بعد الاحتكاك مع الأوروبيين المهاجرين، لتقتل أعدادًا لا تحصى من السكان الأصليين وتلحق دمارًا تعجز عنه أكثر الأسلحة تطورًا.

هذا ليس كل شيء، فامتداد المنطقة الأوراسية الشاسع من الشرق إلى الغرب سمح بتبادل فعال للخبرات بين شعوبها، فالتشابه المناخي والبيئي يسمح بنقل التجارب والابتكارات في مجالات الزراعة والصناعة والبناء وتطبيقها بنجاح، وهو أمر غير قابل للتطبيق بالنسبة إلى أفريقيا و القارتينوالقارتين الأمريكيتين، إذ تمتد هذه القارات على محور شمالي جنوبي يجعلها مقسمة بيئيًا بشكل يعيق نقل الخبرات بشكل فعال، فالمحاصيل التي تنمو في حوض الكاريبي وخليج المكسيك ليست قابلة للزراعة في جبال الأنديز، ينطبق المثال ذاته على القارة الأفريقية بصحرائها الكبرى وأدغالها الاستوائية وسهولهاوسهوبها المدارية الشاسعة.

نصل هنا إلى سؤال مهم، إذا كانت الكتلة الأوراسية تحمل مقومات نهوض الحضارة وتطورها، ما سبب تفوق الأوروبيين –وبشكل خاص شعب أوروبا الغربية- وسيطرتهم على العالم خلال التاريخ الحديث؟ لماذا لم تنشئ الصين واليابان مستعمرات حول العالم؟

تقدم الجغرافيا –برأي دايموند- إجابة منطقية على هذا السؤال أيضًا، ففي حين تتميز أوروبا بالعديد من الحدود الجغرافية الطبيعية مثل السلاسل الجبلية والأنهار والبحار، تفتقر القارة الآسيوية الضخمة إلى حدود طبيعية مهمة، الأمر الذي أدى إلى نشوء إمبراطوريات برية كبرى في آسيا سلك معظمها سلوكًا انعزاليًا، على عكس الدول الأوروبية التي عاشت تاريخًا من الصراع والتنافس المستمر أجبرها على التسابق دوما نحو القمة في جميع المجالات.

مثلت نظرية دايموند الجريئة خطوة مهمة نقلت النقاش العالمي حول ماهية الحضارة وكيفية نشوئها إلى مستوى جديد، وقدمت تفسيرًا منطقيًا لتفاوت التطور بين الشعوب على الرغم من بعض المآخذ المتعلقة بتشبيه أفريقيا بقارات العالم الجديد وإغفال المقومات الثمينة لتلك القارة الضخمة من ثروات زراعية ومعادن ثمينة، فهل كان التاريخ محكومًا منذ البداية بمحض المصادفة الجغرافية؟

 

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا