قبل قرن من اليوم، عاش أكثر من 800,000 مواطن يهودي على أراضي العالم العربي لم يبق منهم حاليًا أكثر من 4,000 على أكثر تقدير. كيف اختفت مجتمعات بشرية كاملة خلال أعوام معدودة؟
عند الحديث عن الهجرة الجماعية بعد نكبة عام 48، لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا تهجير الأهالي الفلسطينيين من الأراضي المحتلة إلى دول الشتات، لكن الصورة لا تكتمل دون الإشارة إلى مئات الآلاف من اليهود الذين هاجروا أو هُجروا من الأراضي العربية خلال الفترة ذاتها، فما هي قصتهم؟
بدأت الهجرات اليهودية على نطاق ضيق أوائل القرن العشرين في ظل وعود وتسهيلات كبيرة قدمتها الحكومة البريطانية والحركة الصهيونية الفتية، لتتسارع وتيرة الهجرة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات خصوصًا من العراق والمغرب وليبيا، إذ فقدت هذه البلاد خلال أعوام قليلة أكثر من 90% من سكانها اليهود الذين تركوا أملاكهم وحياتهم السابقة وسافروا على حين غرة، ووصل المجموع إلى 200,000 يهودي هاجروا إلى إسرائيل بين عامي 1948 و1951 مشكلين 56% من سكان الدولة الجديدة.
فلنبدأ بحديثنا عن العراق، حيث يعود الوجود اليهودي إلى السبي البابلي قبل نحو 2,600 سنة، وقدر عددهم عام 1948 بنحو 140,000 شخص (نحو 4% من السكان) عاش معظمهم في بغداد والبصرة. و على الرغم من إمكانية تتبع العداء تجاه اليهود إلى بداية الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى وتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، ارتفعت إلا أن وتيرة التصعيد ارتفعت خلال الثورة الفلسطينية عام 1936 ليبلغ العداءُ ذروته بأحداث الفرهود في عام 1941 وهي مذبحة حدثت خلال احتفال اليهود العراقيين بعيد الشفوعوت اليهودي والتي راح ضحيتها نحو 180 قتيلًا و1,000 جريح من يهود العراق وسرقت ونهبت أموالهم وممتلكاتهم. بعدها عاد الاستقرار مؤقتًا إلى المجتمع اليهودي حتى أن اليهودية رينيه دنكور ربحت أولى مسابقات ملكة جمال العراق عام 1947.
لكن كل شيء تغير بعد نكبة عام 48، لتبدأ الهجرة الجماعية غير الشرعية لآلاف اليهود العراقيين شهريًا على الرغم من محاولة الحكومة منع اليهود من السفر أسوة بمختلف أعضاء الجامعة العربية. ومع حلول عام 1951م، كان قد غادر أكثر من 80% منهم إلى إسرائيل، ما مثّل بداية النهاية للوجود اليهودي في العراق.
أما في مصر حيث ضمت الأحياء اليهودية في القاهرة والإسكندرية والفيوم نحو 75,000 مواطن يهودي، شغل اليهود مناصب فعالة في المجتمع، كما تركت شخصيات يهودية مثل توجو مزراحي وكاميليا وإلياس مؤدب وغيرهم الكثير بصمة واضحة على النهضة الفنية المصرية، لكن وضعهم الأمني اتخذ منحنى خطرًا بعد حرب السويس عام 56، وما حملته من تصعيد ضد السكان اليهود وفقدان الثقة بهم.
تقدم مختلف الدول العربية الأخرى مثل سوريا ولبنان واليمن وليبيا والجزائر أمثلة مشابهة عن اختفاء سريع للحياة الجماعية اليهودية ضمن المجتمع، مع استثناءات قليلة مثل المغرب التي حافظت على مجتمع يهودي ضيق يقدر بنحو 2,700 شخص بعد أن كان اليهود يمثلون 2% من السكان، وتونس التي بقي فيها نحو ألف يهودي بعد أن كان عددهم يزيد عن 100,000.
لعل من الصعب حصر أسباب الهجرة اليهودية الجماعية من البلاد العربية خلال العقود الأخيرة، خصوصًا بعد تحول هذه الهجرة إلى موضوع سياسي، لكن الأمر الواضح هو تشارك عوامل نبذ من الدول العربية مثل الاضطهاد والاضطراب السياسي والفقر والتضييق الأمني المستمر، مع وعوامل الجذبٍ مثل المغريات التاريخية والدينية بالوصول إلى أرض الميعاد، إضافة إلى الرغبة بتحقيق حياة أفضل في ظل استقرار اقتصادي وأمني.
في هذا السياق، يركز كل طرف من النزاع على الأسباب التي تدعم حجته وتحقق غاياته، فيشبه أحدهم هجرة اليهود إلى إسرائيل بتهجير الفلسطينيين بعد النكبة، ويصور آخر اليهود مهاجرين طوعيين مدفوعين بالوعود والمغريات العديدة، لكن التاريخ يثبت أن أيًا من الطرفين لم يقدم الحقيقة المطلقة التي لن تظهر ما لم ننظر إلى هذه القضية بعين حيادية بعيدًا عن التسييس والتعتيم السائدين منذ عقود. فهل كان يهود الدول العربية جواسيس الحركة الصهيونية أم ضحايا لحرب لم يرغبوا دخولها؟