مع حلولِ القرنِ السابعِ عشر، كان العالَمُ قد غَرِقَ بممارساتِ التمييزِ العرقيّ وسياساتِهِ، فالسفنُ البرتغاليةُ سنّتْ تجارةَ “العبيدِ” عبرَ المحيطِ الأطلسيّ وتَبِعَتْها السفنُ البريطانيةُ والفرنسيةُ والإسبانيةُ والهولنديةُ والأمريكيةُ، فاستُعبِدَ ذوو البشرةِ السمراءِ عُرفاً ثمَّ قانوناً في القارة الأمريكيةِ، والأوروبيةِ وحتّى .. الإفريقية! حيثُ أقامتْ فيها المملكةُ المتحدةُ مستعمراتٍ عدةً وحكمتْ جنوبَ إفريقيا أقلّيّةٌ من البيض الأوروبيين حكماً غيرَ عادلٍ فمَنَعوا ذوي البشرةِ السّمراءِ من العمل ومن التّحَرّك داخلَ البلادِ إلا بتصريح. وبالرّغمِ من إلغاءِ العبوديةِ في المملكةِ المتّحدةِ عامَ ألفٍ وثمانمئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين (1833)، إلّا أنّ تطبيقَ الإلغاءِ في جنوبِ إفريقيا لم يكن نافذاً كما يجب، فقد أُرغِمَ ذوو البشرةِ السمراءِ على العملِ بالسخرةِ في المناجم، وسُلِبوا أراضيهم بموجبِ قانونِ “غلين غراي Glen Grey” الذي صدرَ في مستعمرةِ كيب والذي كان يهدفُ إلى التقليصِ من حقوقِ الملكيةِ للأفارقةِ من ذوي البشرةِ السمراء.

سَخِطَ ذوو البشرةِ السمراءِ على هذه السياساتِ أفراداً وعشائرَ أبرزُها عشيرةُ “ماديبا” التي وُلِدَ فيها “مانديلا” وعُرِفَ باسمِها وسُمّيَ بـ”روليهلاهلا” أي بالعامّيَةِ; “المشاكس” أما اسمُهُ “نيلسون” فقد أُطلِقَ عليهِ في مدرستِهِ الابتدائيةِ التي كانت تخضعُ لنظامِ التعليمِ البريطانيِّ فتُطلِقُ على تلامذتِها أسماءَ إنكليزيةً ليسهُلَ دمجُهم في الثقافةِ الإنكليزية. إلا أن “مانديلا” كانَ من القلةِ الذين لم يتأثروا بهذهِ الثقافةِ وظلّ مُحافِظاً على مفاهيمِهِ وهويتِهِ وثقافتِهِ الإفريقيةِ حتى بلغَ سنَّ الجامعةِ فترسّختْ أكثرَ بدراستِهِ علمَ القانونِ في جامعةِ “ويتواتراسراند Witwatersrand”.

في هذهِ المرحلةِ، سُجِنَ “مانديلا” للمرةِ الأولى على خلفيةِ مشاركتِهِ باحتجاجاتٍ على سياساتِ التمييزِ العنصريّ وأصبحتْ متابعةُ دراستِهِ بشكلٍ طبيعيٍّ غيرَ ممكنةٍ فأكملها بالمُراسَلَةِ في جوهانسبرغ وحصلَ على درجةِ البكالوريوس في الحقوق.

ولأنَّ الوظائفَ الحكوميةَ كانتْ ممنوعةً على ذوي البشرةِ السمراء، فلم يعملْ “مانديلا” في الحكومةِ، وافتتحَ مكتبَهُ الخاصَّ للمحاماةِ عامَ ألفٍ وتسعمئةٍ واثنينِ وخمسين (1952) وكانَ أوّلَ مكتبِ محاماةٍ لذوي البشرةِ السمراءِ في جنوبِ إفريقيا.

أما سجنُهُ للمرةِ الثانية، فكان عَقبَ أحداثِ ما عُرِفَ بــ “مذبحة شاربيفيل Sharpeville ”  التي أَطلقَ فيها رجالُ الشرطةِ النارَ على سبعةِ آلافِ شخصٍ تظاهروا ضدَّ “قانونِ الاجتيازِ” الذي كان ينصّ على تقييدِ حركةِ ذوي البشرةِ السمراء. وحُظِرَتْ على أثرِ الحادثةِ نشاطاتُ حزبِ المؤتمرِ الوطنيِّ الإفريقي واعتُقِلَ عضوُهُ المؤسّس; مانديلّا!

إلا أنّ الحكمَ عليه بالسجنِ المؤبَّدِ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةٍ وستين (1964) كان منعطفاً فاصلاً في حياتِهِ، وفي قضيةِ مكافحةِ الفصلِ العنصريِّ، وفي شكلِ العالمِ. فقد شاعتْ قصّتُهُ وصارَ رمزاً دولياً للكفاحِ ضدّ العنصريّةِ خصوصاً بعدَ رفضِهِ عرضَينِ من سجّانِهِ بالإفراجِ عنهُ مقابلَ التخلّي عن المقاومة.

ولمّا كَثُرَتِ الضغوطُ الداخليةُ والدوليةُ، أطلقتْ حكومةُ جنوبِ إفريقيا سراحَهُ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعين (1990) ليُعلِنَ فورَ خروجِهِ وقفَ الكفاحِ المسلَّحِ وليقودَ مفاوَضاتٍ مع رئيسِ جنوبِ إفريقيا آنذاك “فريدريك ويليام ديكليرك” لإنهاءِ التمييزِ العنصري وخوضِ انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ فاز على أثرِها “نيلسون مانديلا” بالرئاسةِ كأوّلِ رئيسٍ أسودَ لجنوبِ إفريقيا عامَ ألفٍ وتسعِمِئةٍ وأربعةٍ وتسعين (1994)، حضرَ مراسيمَ تعيينِهِ مليارُ شخصٍ عبرَ التِّلفاز.

بدأّ أعمالَه بالانتقالِ من حُكمِ الأقلّيّةِ بنظامِ الفصلِ العُنصريِّ إلى الديمقراطيّةِ المتعدّدَةِ لِيورِثَ جنوبَ إفريقيا نظاماً متكاملاً من الرعايةِ الاجتماعيّةِ القائمةِ على المساواةِ، والذي ألحقَ مليوناً ونصفَ المليَونِ (1.5 مليون) من الأطفال بالتعليم وأحدثَ خمسَمئةِ (500) عيادةٍ طبّيّةٍ ووصلَ مليونَي شخصٍ بشبكةِ الكهرباء وثلاثةَ ملايينَ بشبكةِ المياه.

بعد انتهاءِ ولايتِهِ في عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وتسعين (1999)، لم يرشّحْ مانديلا نفسَه لولايةٍ ثانية، وتقاعدَ ليؤسّسَ مؤسَّسةً باسمِهِ لدعمِ التنميةِ الريفيةِ وبناءِ المدارس ولمكافحةِ انتشارِ الإيدز;الأمرُ الذي اتُّهِمَ بالتقصيرِ بشأنِهِ خلالَ فترةِ رئاستِه، وقد أنشأَ أيضاً مؤسسةَ “مانديلا رودس Mandela Rhodes” التي تُعنى بتوفير مِنح دراسيةٍ للطلبةِ الأفارقةِ في مرحلةِ الدراساتِ العُليا في جامعةِ أوكسفورد، وتابعَ أعمالَهُ على الصّعيدَين المحليِّ والدوليّ حتى تراجعَت صِحّتُهُ وفارَقَ الحياةَ في الخامسِ من كانون الأول (5 ديسمبر) من عامِ ألفينِ وثلاثةِ عشر (2013) عن عمرٍ ناهزَ خمساً وتسعين عاماً (95)، محاطاً بعائلتِهِ في جوهانسبرغ بعدَ حياةٍ مُلهِمةٍ لشعوبِ العالَمِ بالتغييرِ، وبعدَ حصولِهِ على أكثرَ من مِئَتَينِ وخمسينَ (250) جائزةً منها جائزةُ نوبل للسلام عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ وتسعين (1993)، وقد أعلنَ عن وفاتِهِ رئيسُ جنوب إفريقيا آنذاك “جاكوب زوما” من خلالِ بيانٍ قالَ فيه:

” بَـنـِي وطني جنوب إفريقيا، لقد وحّدَنا نيلسون مانديلا وسوفَ نودّعُهُ موحَّدين”

 

نريد أن نعيد لمنطقتنا مجدها السابق.أتريد ذلك أيضاً؟

خلال العصر الذهبي، ساهمت منطقتنا ببعض أكبر الاختراعات والعجائب العلمية في العالم الحديث. نحن نعيد إيقاد روح المعرفة والمجد والأمل التي ألهمت المنطقة خلال هذه الفترة، ونحن بحاجة إليك.

انضم إلينا