في الشرق ظهر الدين المسيحي، وهناك تعيش أكثر طوائفه عراقة منذ ظهور المسيح حتى اليوم، لكنها تواجه في الوقت الحالي تحدياً غير مسبوق، فهل تعيش المسيحية خطرًا وجوديًا في الشرق؟
لا يخفى على أحد أن الشرق الأوسط يعيش مرحلة تحول متسارع لاسيما بعد أعوام سادتها ثورات وحروب أهلية ألقت بظلالها على الأقليات الدينية والطائفية والقومية، والتي تعرض أفرادها لمختلف أشكال الاضطهاد من قتل وخطف وتخريب ممتلكات منظم تارة، وعشوائي وسط الفوضى المسيطرة طورًا.
يعيش مسيحيو الشرق في بلاد ذات غالبية مسلمة لكن حالهم ليس واحدًا في جميع تلك الدول، فلنأخذ على سبيل المثال لبنان الذي مثل طوال تاريخه منارة تعددية وتعايش وملجأ آمنًا للأقليات المستضعفة حيث يعيش أكثر من مليوني لبناني مسيحي يمثلون نحو 40% من السكان، لكن الوضع هناك بدأ بالتحول أسوة ببقية دول المنطقة نتيجة الضغوط الداخلية والإقليمية، ليبقى انفجار الوضع احتمالًا واردًا طوال الوقت في منقطة تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
أما في العراق، فقد بلغ عدد المسيحيين قبل الغزو الأمريكي نحو مليون ونصف المليون عانوا خلال الحرب ما عاناه أبناء وطنهم من ويلات الحرب وما تلاها من تطرف وأعمال عنف بلغت ذروتها بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من البلاد، لتبدأ موجات هجرة متلاحقة لم تبق منهم إلا 300 ألف على أكثر تقدير. بالحديث عن تنظيم الدولة الإسلامية، لا يمكن لأحد أن ينسى فظائعه في سوريا التي شاركت العراق مآسيه خلال السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من أن الدمار والخراب لحق بالجميع دون استثناء، كانت الأقليات الدينية والعرقية أكثر تأثرًا بأعمال العنف الهادفة إلى إحداث تغيير ديمغرافي والقضاء على الوجود المسيحي في المنطقة، فمن مليون ونصف المليون مسيحي قبل عام 2011، تشير التقديرات الحالية إلى بقاء نحو 500 ألف فقط بعد هجرة جماعية لم يسبق لها مثيل في التاريخ السوري الحديث.
أما في فلسطين المقدسة لدى المسيحيين كما هي للمسلمين واليهود، تأثر مسيحيو الضفة الغربية وقطاع غزة بالصراع العربي الإسرائيلي ما دفع نسبة كبيرة منهم إلى الهجرة للبحث عن حياة أفضل في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا على وجه الخصوص ليبقى منهم نحو 50 ألف فقط، بينما يعيش داخل إسرائيل 150 ألف مسيحي.
لحسن الحظ، لا يشمل هذا الوضع المأساوي المنطقة كافة، ففي الأردن لا تزيد نسبة المسيحيين عن 4% من السكان، لكنهم يحتلون مكانة مهمة في المجتمع ويديرون مفاصل كبرى في مجال الاقتصاد والفن، ناهيك عن المدارس الخاصة المسيحية التي تتفوق باعتراف الجميع على العديد من المدارس الحكومية، وتضم طلابًا من كافة الانتماءات الدينية.
لا يمكن أن نتحدث عن مسيحيي المنطقة العربية دون أن نتطرق بالذكر إلى مصر، حيث يشكل الأقباط نحو 10% من السكان الذين تعرضوا تاريخيًا إلى العديد من أشكال الاضطهاد وصلت إلى حد الانفجار خلال الأعوام الأخيرة، إذ أودت الاشتباكات الطائفية والأعمال الإرهابية بحياة المئات خلال العقد الأخير، إضافة إلى تدمير العديد من دور العبادة والرموز التاريخية كما في أعمال عام 2013 التخريبية، لذلك يعيش الملايين منهم حالة عدم استقرار وسط حوادث الاختطاف والابتزاز وتهديد أماكن العمل والعبادة بما ينغص الحياة اليومية.
من الأمثلة السابقة وغيرها، لا نجد مبالغة في القول إن المسيحية تواجه في الشرق خطر الانقراض كوجود ثقافي اجتماعي فاعل، وهو ما أكده البابا فرنسيس في زيارته إلى العراق في شهر مارس 2021، ما يسلط الضوء على أهمية العمل بشكل فعال لتثبيت الوجود المسيحي في المنطقة كمكون ثقافي تاريخي مهم وتوسيع هذا العمل ليشمل جميع الأقليات التي يقدم كل منها شيئًا مختلفًا إلى المجتمع. فهل يمكن أن يتحول مهد المسيحية إلى أرض مهجورة من أهلها؟