ليس دستورياً .. لكنَّ تَوزيعَ السلطةِ في لبنانَ محاصصةٌ طائفيّةٌ
اتفاقُ الطائفِ: البدايةُ والمصير!
عايَنَ لبنانُ الانقسامَ الطائفيَّ منذُ نشأتِهِ في القرنِ السّادسِ عشر، حيثُ كان يُسّمّى حينَها “إمارةُ جبلِ لبنان” وكان محكوماً بنظامِ المِلَلِ بينَ المسلمينِ والمسيحيينَ واليهود، ثُمَّ قُسِّمَ إدارياً وجغرافياً على أساسٍ طائفيٍّ وخضعَ -وهو على هذا الحال- للاحتلاِل الفرنسيِّ فعزّزَ الفرنسيون الطائفيةَ واستمالوا المسيحيين دون غيرِهم وشكّلوا تحالفاً غيرَ معلنٍ استمرّ بعدَ الاستقلالِ الذي ناله لبنانُ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعين (1943) مشكِّلاً أوّلَ حكومةٍ لبنانيةٍ تجمعُ اللبنانيّينَ على “الميثاقِ الوطنيّ” وهو اتّفاقٌ عرفيٌّ يوزّعُ السُّلطةَ بما يضمنُ التمثيلَ السياسيَّ لجميعِ الطوائفِ الثمانيةِ عشرة، حيثُ يترأّسُ الحكومةَ المسيحيونَ الموارنةُ، ويقودُ البرلمانَ المسلمونُ الشيعةُ وتكونُ رئاسةُ الوزراءِ من نصيبِ المسلمين السّنّةِ.
ومع قيامِ إسرائيل ولجوءِ الآلافِ من الفلسطينيّينَ إلى لبنان، خشي الكثير من اللبنانيين من تغير الديموغرافيا اللبنانيةُ ولذلك اندلعتِ الحربُ الأهليةُ.
يتّفقُ الكثيرون على أنّ بدايةَ الحربِ الأهليةِ كانت بمحاولةِ اغتيالٍ فاشلةٍ للزعيمِ المارونيِّ “بيار الجميل” قامَ بها مسلَّحونَ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وخمسةٍ وسبعين (1975) فَرُدَّ عليها بالهجومِ على حافلةٍ مدنيةٍ وعُرِفَتْ حينَها بحادثةِ عينِ الرّمّانة.
وتصعّدتِ الأحداثُ بسرعةٍ مع مشاركةِ أطرافٍ خارجيّةٍ كالجيشِ السوريِّ وإسرائيل وكذلك تدخّلِ القوى متعدّدةِ الجنسيّاتِ، فكانَ الصراعُ على عدّةِ جبهاتٍ ضمنَ محاورَ دينيةٍ وسياسيةٍ.
استمرّتِ الحربُ الأهليةُ خمسةَ عشرَ عاماً أسفرتْ عن مقتلِ مايُقَدَّرُ بمئةٍ وعشرينَ ألفِ (120 ألف) شخصٍ وتشريدِ ستةٍ وسبعينَ ألفاً ( 76 ألفاً ) ونزوحِ مايقاربُ المليونَ خارجَ البلادِ.
ولم تَحُطَّ الحربُ أوزارَها إلا بوثيقةِ وفاقٍ وطنيٍّ لبنانيٍّ عُرِفَ باسمِ “اتفاقِ الطائفِ” نسبةً لمدينةِ الطائفِ التي استضافَتْ حوارَهُ بوساطةِ السعوديةِ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وثمانين (1989) وتناولَ الاتفاقُ أربعَ موادٍ رئيسيةٍ يمكن تلخيصُها بتحديدِ شكلِ لبنانَ كجمهوريةٍ برلمانيةٍ ديمقراطيةٍ مع توزيعِ مقاعدِ مجلسِ النوّابِ مناصفةً بينَ المسلمينَ والمسيحيينَ بعدَ أن كانتِ النسبةُ خمسةً وخمسينَ بالمئةِ (55%) مسيحيين وخمسةً وأربعينَ بالمئةِ (45%) مسلمين، وتقليصِ صلاحياتِ رئيس الجمهورية لصالح رئيسِ الوزراء. وكذلك، بسطِ سيادةِ الدولةِ اللبنانيةِ على كاملِ أراضيها، والتأكيد على تحريرِ لبنانَ من الاحتلالِ الإسرائيليِّ بكافةِ الطرقِ والوسائل، وتأطيرِ العلاقاتِ اللبنانيةِ السوريةِ بمايحفظُ أمنَ الدّولتَين.
وبالرغمِ من أنَّ اتفاقَ الطائفِ هدفَ إلى إلغاءِ الطائفيةِ المخالفةِ للدستور، إلا أنَّ النظامَ السياسيَّ في لبنانَ لايزالُ تحتَ وطأةِ البنيةِ الطائفيةِ حيثُ أنَّ تقاسُمَ السلطةِ لا يقتصرُ على مناصبِ رئاسةِ الجمهوريةِ والبرلمانِ والوزراء، بل يمتدُّ ليشملَ جميعَ المناصبِ العليا والمتوسطةِ في الدولةِ بحيث تُقَدَّمُ حصصٌ لمختلفِ الطوائفِ بناءً على الطائفةِ فقط.
تَبعَت اتفاقَ الطائفِ أحداثٌ كبيرةٌ فقد اغتيلَ عرّابُ الاتفاقِ; رفيقُ الحريريّ وأُشعِلَ حراكٌ سلميٌّ عُرِفَ بـ”ثورةِ الأرز” انقسمتْ على إثرِهِ الساحةُ السياسيةُ إلى فريقَين: الثامنِ من آذار والرابعِ عشر من آذار وهما كتلتان سياسيتان سُمّيتا نسبةً لتاريخَي تجمُّعِهما، وظلّتِ الازمةُ بذلكَ قائمةً حتى عُقِدَ اتفاقُ الدوحةِ الذي بالرغمِ من تهدئتِه لوتيرةِ الصراعِ، إلا أنهُ لم يعالجِ الإشكالياتِ الجوهريةَ التي خلّفَها اتفاقُ الطائف، وشهدَ لبنانُ في ظلِّ كلّ ذلك فراغاً سياسياً طويلاً.
تعايشَ اللبنانيونَ لسنواتٍ طويلةٍ مع اتفاقِ الطائفِ على أنهُ صمامُ الأمانِ خشيةَ العودةِ إلى الحربِ الأهليةِ التي أنهكتْ أركانَ البلاد وبالرغمِ من أنَّ الدستورَ لا ينصُّ على التقسيمِ الطائفيِّ ولاحتى اتفاقَ الطائفِ تعرّضَ لذلك، إلّا أنَّ استمرارَ العملِ به أظهرَ السخطَ الشعبيَّ بشكلٍ واضحٍ منذُ انطلقتْ حركاتٌ شعبيةٌ تطالبُ بالإصلاحِ في الوطنِ العربيِّ، وكانتْ محاولاتُ اللبنانيينَ حثيثةً; أبرزُها الانتفاضةُ الشعبيةُ التي قاموا بها في تشرين الأولِ عامَ ألفينِ وتسعةِ عشر (2019) رافعينَ العلمَ اللبنانيَّ فقط مع تغييبِ أعلامِ الأحزابِ السياسيةِ والطوائفِ الدينيةِ، مجتمعينَ بمختلفِ الأعمارِ والطوائفِ والأطيافِ، مطالبينَ بإصلاحِ كافةِ مؤسساتِ الدولةِ، داعينَ لتطبيقِ الدستورِ المكتوبِ بتنصيبِ القياداتِ بناءَ على الكفاءاتِ بعيداً عن المحاصصةِ الطائفية.
فهل نشهدُ -عمّا قريبٍ- لبناناً واحداً للجميع تتفكّكُ فيه البنيةُ الطائفيةُ في النظامِ السياسيّ؟