«الموسيقى، هي قانون أخلاقيّ يمنح الكون روحًا، والعقل أجنحةً، ويرسم طريق الهروب نحو الخيال، ويبعث في الحياة بهجة وسحرًا». أفلاطون
أن تكون مُحبًا للحكمة فهذا يعني أن تمتلك رؤيتك المتفرّدة للحياة من حولك، للإنسان الذي أنت بهيئته، وبالكون الذي يحتويك، هذا ما حددّه الفلاسفة القدماء لما يجب أن يلتزم به الحكماء، وما يجب أن يهتمّوا به من علوم، كالهندسة، والحساب، والفلك، جنبًا إلى جنب مع الموسيقى أيضًا، إذ جمعت الموسيقى بين تلك العلوم وجعلتها متناغمة، وحوّلتها لإيقاعها الخاص، فاقترنت بالفلك وحركة الكون المُقسّمة زمنيًا بشكل مدروس، كحركة القمر مثلًا، والأثر الذي يُحدثه في حركة سوائل الجسم، وانعكاسها على الحالة المزاجية للإنسان. تناغمت الموسيقى مع تلك الحالة، وأدخلت علم الحساب في حسبانها لدراسة تلك التقسيمات الزمنية للكون، وتحليل العلاقة فيما بين ايقاعاتها المتغيّرة، لتُشكّل بمجملها جُملًا مُتقنة مُنسابة كالهندسة.
الموسيقى، بين الحضارة الغربية والشرقية
كوّن كل ذلك ارتباطًا وثيقًا بين الموسيقى والفلسفة، فترى عُمق العلاقة بين الموسيقى والفلاسفة على اختلاف عصورهم ومذاهبهم الفلسفية، برغم من أن تطوّر الموسيقى قد سار بطريقة مستقلة عن أفكار الفلاسفة، لكن إن تمعنّا قليلًا في أقدم معرفة لنا عن الموسيقى في الحضارة الغربية، نجدها ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين، وبرغم ظهورها في آراء حكماء المشرق قبل وقت طويل من العصر الذهبي اليوناني، لكن تنظيم النظريات الموسيقية المتوارثة من أسلاف الفلاسفة اليونانيين، خلق تراثًا من الفلسفات منذ العصور القديمة واستمرّ حتى العصر الحديث.
خلال تلك الفترة برزت أسماء فلاسفة عظماء من أمثال أفلاطون الذي ربط الموسيقى بالوجدان، فجعلها شرطًا لتحفيز وجدان حرّاس المدينة الفاضلة، وأرسطو الذي اعتبر الموسيقى في مقدّمة كل الفنون، وسقراط الذي رأى فيها أهمية بالغة، وربطها بالسياسة فظَن بأن كل أسلوب غريب يظهر في الموسيقى، من شأنه أن يُوصل غير المستحقّين إلى سدّة الحكم.
وبرزت أيضًا أسماء ك فيثاغورس، والكندي، ونيتشه، وشوبنهاور، والكثير غيرهم ممن تغنّوا بالفنون والموسيقى بشكل حدسيّ، وأضافوا لها بنظرياتهم ما لم يسبقهم عليها أحد. لكننا سنركّز في مقالنا هذا عن العلاقة التي جمعت بين الموسيقى وفيثاغورس، وشوبنهاور كلًا على حدى، وكيف درسوا ما سُمّيت بفلسفة الموسيقى.
فيثاغورس، العالم بين نسب عددية ونغمات
في الحقيقة يمكننا اعتبار فيثاغورس سانّ قواعد الموسيقى في عصره، مستخدمًا إيّاها في نظرياته عن حركة الأجرام السماوية، فقد تراءى له بأن كل جسم في الفضاء يصدر عنه صوت خاص، وتتناسب درجة ذلك الصوت تبعًا لحجم ذلك الجسم بالإضافة إلى سرعته.
بدأت القصة -بحسب الأسطورة- بينما كان الفيلسوف اليوناني فيثاغورس يمشي في السوق وأطربت مسامعه الأصوات المختلفة الصادرة عن طَرْقِ الحدّادين على سنادينهم طوال طريقه، فدفعه فضوله المعرفيّ كي يتقصّى سبب اختلاف تلك الأنغام بين المطارِق، فلاحظ أن النغمة الصادرة عن مطرقة ما، تختلف عن نغمة مطرقة أخرى تزِن ضعف أو أقل من نصف وزن المطرقة الأولى، وبالتالي سيصدر عنها نغمة جديدة. ومن هنا استنتج فيثاغورس أن لكل مطرقة تهوي على سِندانها نغمة خاصة وتتوقّف على نسبة عددية محددة، وذلك في دلالة على أن الموسيقى كانت حاضرة طيلة الوقت في ذهن فيثاغورس. قد لا يكون مصطلح (الأنغام) دقيقًا في هذه الحالة، إلا أن المصطلح الأدق (الترددات) لم يكن معروفًا بعد في ذلك الوقت.
لم يُلقِ الباحثون أهمية كبيرة لترددات مطارق الحدّادين التي أطربت مسامع فيثاغورس، بقدر ما اهتمّوا بما خلُص إليه من علاقة طول الوتر المهتز مع الأنغام الموسيقيّة. إذ نُسب إلى فيثاغورس اكتشافين اثنين، أو اعتبارين إن صح القول
- الأول: أن كل نسبة عددية على وتر مهتز تقابلها أنغام موسيقية يرتاح لها الدماغ البشري.
- الثاني: تصنيف الأنغام الموسيقية المريحة للدماغ.
لكن كيف درس فيثاغورس ذلك؟
قسّم فيثاغورس طول الوتر إلى أجزاء عددية كاملة (بدون كسور) واكتشف من خلال التجربة أن الأنغام التي تصدر عنه عند اهتزازه أنغام مريحة، وعندما كرر العملية نفسها بعد تقسيم الوتر إلى أجزاء عددية (كسريّة)، بعث الوتر المهتز نشازًا مزعجًا. من هنا اختار فيثاغورس طولًا للوتر يُوفّر له أكبر عدد من القواسم غير الكسرية، مع المحافظة على صغر طوله، وهو العدد 12، حيث قسّمه إلى أجزاء كاملة (1-2-3-4-6-12).
هذا يعني أن الوتر غير المُقسّم إن اهتز بكامل طوله، ستكون النسبة هي 12:12، سيعطي نغمًا معيّنًا، ويمكن تبسيط تلك النسبة إلى 1:1، أمّا إذا قُسّم الوتر إلى قسمين متساويين، فإن كل قسم سيحوي 6 وحدات، وعند اهتزاز نصف الوتر، سيُعطي نغمة تُشبه النغمة الصادرة عن الوتر المُهتز بطوله الكامل، لكنها أكثر حدّة منها، وبالتالي تكون النسبة هي 12:6 أو يمكن تبسيطها إلى 2:1، وهكذا دواليك.
تعتبر النسبة العددية 2:1 من أهم النسب التي تقابل نغمة موسيقية، والتي تُسمى في علم الموسيقى بِ (الأوكتاف)، والتي تعني بأن النغمة المقابلة لهذه النسبة ستكون أعلى من النغمة السابقة ب (واحد أوكتاف)، وبتردد يقابل ضعف النغمة الأولى. يمكن إسقاط الأوكتاف على الواقع وملاحظته عند سماع أغنية مثلًا بصوت رجل وامرأة معًا، كلّ منهما يتميّز بصوت خاص فنجد مثلًا أن المرأة صوتها أكثر حدّة من الرجل، فإن كان تردد صوت المرأة ضعف تردد صوت الرجل، نقول بأنها أعلى ب (واحد أوكتاف) من الرجل.
تمكّن فيثاغورس من إيجاد نسب عددية جديدة تقابلها أنغام جديدة، مستفيدًا من الرياضيات ومن الأوكتاف 12:6، وقد اعُتبرت تلك النسب الأساس في بناء السلّم الموسيقي، ويعتقد الباحثون أيضًا بأن لفيثاغورس الفضل في إيجاد النسب الأساسية الأولى فقط والتي هي (1:1 – 12:6 – 3:2).
شوبنهاور
لطالما هيمنت فكرة رئيسية على فلسفة شوبنهاور، وتكمن بأن الإرادة هي المحرّك لكل المخلوقات، ولا مفرّ للإنسان من سيطرتها وقساوتها وتحجّرها، فلا قيمة للفرد بعينه من عملية بقاء نوعه ككل. يرى شوبنهاور أن العبقرية تكمن في قدرة الفنان على إدراك ونقل اللحظات الفارقة التي تتجلّى له من الأبدية، ذلك التجلي الذي يراه أفلاطون تخيّليًا، وليس عقلانيًا، ففي الوقت الذي يتحوّل فيه الفن لممارسة عقلية، فإنه لا يعود وسيلة للعبور إلى حالة ما وراء الطبيعة.
لكن مع ذلك قد نجد بعض الوسائل التي يمكننا تحرير أنفسنا بها من سيطرة الإرادة ولو لبرهة من الزمن، إحداها هي الاستعانة بالفن وخاصة الموسيقى، التي تجعلنا نشعر ونتأثر بالإشارات الصوتية المُستمّدة من سماع أنغامها.
صنّف شوبنهاور الموسيقى بأنها أسمى أشكال الفنون، فهي الأكثر تعبيرًا عن جوهر الوجود، والأكثر تجرّدًا، والأقلّ ارتباطًا بالظواهر المحيطة، وبالتالي جعلها تجرّدها هذا تتفوّق على غيرها من الفنون. فلم يرى شوبنهاور أن الموسيقى تميّز فرحًا، أو حزنًا، أو ألمًا معيّنًا، أو سرورًا أو طمأنينة معيّنتان، وإنما تعبّر عن كل تشكل للمشاعر في ذاتها، كأن تعبّر عن الطبيعة الكامنة للمشاعر دون إضافات من الخارج أو تأثير أو إضافة خارجية، الأمر الذي يمنع الدوافع الظاهرية، وفي ذلك نذكر قول الفيلسوف والتر باتر: «تطمح كل الفنون لتكون حالة من حالات الموسيقى».
لم تحظ الموسيقى في الفترة التي سبقت شوبنهاور، وبل وما بعده أيضًا، بفيلسوف استطاع الكشف عن سر ما وراء الفن الموسيقي بالطريقة التي فعلها شوبنهاور، فكان له الفضل بحسب من عاصره من الموسيقيين في الإضافة على كل من فن الموسيقى والموسيقيين.
ختامًا
شكّل اكتشاف فيثاغورس المثير فيما يخص تناسب الأرقام والأنغام، بداية لما بات يُعرف بنظرية الموسيقى، وبداية لقصّة طويلة، تجمع العلاقة بين لغتين عالميتين، الموسيقى والرياضيات، إذ أثبت فيثاغورس بالتجربة بأن الرياضيات تسكن في أعماق الموسيقا، ليكون انسجام الأنغام له علاقة بانسجام الأرقام، وربما كان جزء كبير من إحساسنا بجمال الموسيقى يكمن في علاقات رياضيّة.
وبعيدًا عن فترة ما قبل الميلاد ووصولًا لفلاسفة القرن التاسع عشر الذي مثّل فيها شوبنهار علامة فارقة في تاريخ الفلسفة الغربية، ليكون أول الفلاسفة الذين ركّزوا على الإرادة وليس على العقل، وأول من اتجه بفلسفته نحو بلاد المشرق، ليستلهم القيم الأخلاقية، القائمة على أساس خلاص الإنسان من نزعاته وأهوائه وإرادته الخاصة، وتسعى فلسفته لخلاص الإنسان عن طريق فن الموسيقى الذي يتمثّل بتأمل الكون بطريقة خالية من شوائب الإرادة.
————————————————-
المصادر
- Weiss, Piero, and Richard Taruskin, eds. Music in the Western World: A History in Documents
- Kenneth Sylvan Guthrie, David R. Fideler (1987). The Pythagorean Sourcebook and Library: An Anthology of Ancient Writings which Relate to Pythagoras and Pythagorean Philosophy
- Lucas N.H. Bunt; Phillip S. Jones; Jack D. Bedient (1988). The historical roots of elementary mathematics.
- https://www.unyp.cz/news/music-and-mathematics-pythagorean-perspective
- https://www.teoria.com/en/articles/temperaments/02-pythagoras.php
- http://legacy.earlham.edu/~tobeyfo/musictheory/Book1/FFH1_CH1/1M_RatiosCommas1.html
- https://thatsmaths.com/2014/08/28/temperamental-tuning/
- https://plato.stanford.edu/entries/hist-westphilmusic-since-1800
- https://bigthink.com/high-culture/schopenhauer-music-will/
- https://www.themarginalian.org/2016/04/28/schopenhauer-on-the-power-of-music/